26 نوفمبر، 2024 9:15 م
Search
Close this search box.

اليسار اليوناني … والفرصة التاريخية المضاعة/1

اليسار اليوناني … والفرصة التاريخية المضاعة/1

تعود بدايات تأسيس ائتلاف سيريزا اليوناني الى عام 2004 قبل الانتخابات التشريعية التي كانت ستجري في نفس ذلك العام. وبعد لقاءات بين مجموعات مصنفة كحركات يسارية كانت تفرّقها الخلافات قبل ذلك التاريخ جرى الاتفاق فيما بينها على دخول الانتخابات كفصيل سياسي واحد من أجل الوقوف معا في وجه الخصخصة المتزايدة لمشاريع الدولة التي بيع الكثير منها لشركات وأفراد من دول الاتحاد الأوربي وخارجه وأيضا للوقوف ضد التآكل الذي لحق الحقوق الاجتماعية والمدنية للناس. وبعد اجراء تلك الانتخابات اجتمعت تلك المجموعات ثانية فشكلت الائتلاف الذي عرف منذ ذلك الحين بـ ” سيريزا. ” يضم سيريزا في صفوفه حاليا ماويون وتروتسكيون وفوضويون وجماعات سياسية تمثل اقصى اليمين اضافة الى ما يسمى باليسار الأوروبي واليسار الراديكالي وهي مجموعات تخلت عن الفكر الاشتراكي بعد تركها الحزب الشيوعي اليوناني. وبالقاء نظرة تفحصية على المسميات أعلاه يبدو واضحا أنها أقرب لمنظمات مجتمع مدني منها الى حركات سياسية ذات مناهج تقدمية تعبر عن هموم كادحي شعبها.

ينظر الى «سيريزا» اليوم بكونه حزبًا رغم كونه تشكيلا من فصائل متباينة الاهتمامات السياسية والاجتماعية تجمعها أهداف وتباعدها مواقف وتختلف كتشكيل تنظيمي قربا أو بعدا عن نظرية الحزب السياسي. فأهم ما يميز الحزب عن غيره من التشكيلات الاجتماعية هو منظوره الموحد وبرنامج عمله من أجل التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي ينشده خلال نشاطه اليومي والمبادئ التي يلتزم بها وهذا بالذات ما ينفي صفة الحزب عن سيريزا وأيا من مكوناته.  وبناء على ذلك لا يمكن ايضا تصنيفه كتيار ماركسي ، لأن فكر التيار الماركسي ووسائل نضاله مكرسة لتحقيق البرنامج الاشتراكي كنظام بديل للراسمالية السائدة في العالم. فسيريزا بالاحرى مجموعة أطياف تنشط باسم اليسار لكن لا جامع يجمعها باليسار الشيوعي الذي انشق عن الحزب الشيوعي السوفييتي بقيادة لينين في السنين الأولى التي تلت ثورة أوكتوبر العظمى عام 1917 والذي يعبر عنه اليوم اليسار المجالسي الذي ينشط في بعض دول أوربا وأمريكا. ائتلاف سيريزا ومواقفه تتأرجح بين اليمين الرجعي واليسار الرجعي تبعا لمواقفه من السلطة البرجوازية المهيمنة على الشئون السياسية والاقتصادية في البلاد. ان خوضه الانتخابات البرلمانية كتجمع يساري قد كشف حقيقته كتكتل انتهازي مستعد لابداء الولاء والطاعة للبرجوازية الحاكمة والطغمة المالية المهيمنة على الاتحاد الأوربي ضاربا عرض الحائط  مصالح الطبقة العاملة والكادحين وبقية فئات شعبه.

الحزب الشيوعي اليوناني هو المنظمة السياسية الوحيدة التي لم تساوم على برنامجها السياسي والاقتصادي المعبرعن مصالح أكثرية اليونانيين وله مواقفه الثابتة من النظام الرأسمالي العالمي ومن الأحزاب البرجوازية اليونانية الحاكمة انطلاقا من مواقفه الطبقية دفاعا عن حقوق الطبقة العاملة والكادحين اليونانيين.  وتتلخص مواقفه من الاتحاد الأوربي بانسحاب اليونان من نظام العملة الموحدة ” اليورو” والعودة الى الدراهما العملة اليونانية السابقة ورفض تسديد الديون الأوربية والغاء سياسات التقشف المفروضة على الشعب اليوناني والانسحاب غير المشروط من عضوية الناتو. وعود سيريزا الانتخابية تتبنى الكثير من مطالب الحزب الشيوعي لكن المطالب شيئ والثبات عليها عند الأزمات السياسية شيئ آخر.

 في الحادي عشر من مارت – آذار الماضي صرح اليكسيس تسيبراس رئيس الحكومة اليونانية ورئيس سيريزا قبل توجهه الى بروكسل لمقابلة السيدة ميركل المستشارة الألمانية قوله ” لو قررنا اليوم اجراء استفتاء نسأل اليونانيين فيه : ” هل تفضلون كرامتكم أم تستمرون في ظل سياسة الاتحاد الأوربي المهينة هذه فان كل مواطن يوناني سيختار الكرامة بصرف النظر عن المصاعب التي ستنتج عن قرارهم هذا.” وبالفعل اختار الشعب اليوناني الكرامة عندما صوت بأكثريته الساحقة بـ ” لا ” لسياسة الاتحاد الأوربي ، لكن سيبراس نفسه صوت بـ ” نعم ” لسياسة الاذلال الأوربية التي ينفذها اليوم بحق شعبه.

كان الحزب الشيوعي اليوناني قد أبدا رأيه بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة في الخامس والعشرين من يناير كانون الثاني من هذا العام التي أتت بسيريزا الى السلطة حذر بأن سيريزا لن يحترم وعوده وقد ثبتت توقعاته. ورأي الحزب هذا ليس جديدا فهو يعرف من تجربته ان ما يسمى باليسار اليوناني هو مزيج غير متجانس من حملة الشعارات لا المبادئ الفكرية فكما هم يساريون في ظرف هم يمينيون انتهازيون في ظرف آخر. عندما تحتم عليهم خوض معركة حقيقية مع البرجوازية الأوربية العدو الطبقي للعمال وكادحي الشعب الآخرين لم يفرو من المعركة بل فروا باتجاه العدو رافعين راية الاستسلام. وهم بذلك يتخذون ذاك الموقف الجبان الذي اتخذه الأسير الأمريكي في الحرب الفييتنامية جون ماكين عندما استسلم دون شروط لأعدائه. جون ماكين حاليا هو السيناتور الأكثر ضجيجا بين المحافظين الجدد داخل وخارج الكونغرس الأمريكي في دعواته للثورات الملونة في دول الاشتراكية السابقة رافع راية الحرب الدائمة لاحتلال العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان وايران وافغانستان ومحاصرة روسيا والصين وفرض المزيد من العقوبات على روسيا. عندما أسقطت طائرته المقاتلة أثناء قصفه للفيتناميين الفقراء بالفوسفور الأبيض والغازات السامة هبط بالمظلة سالما. وأثناء التحقيق معه ودون أن يطلب منه أحد عرض خدماته طوعا لخدمة النظام الاشتراكي ، وعندما سألوه عن النشاط الذي يستطيع تقديمه للشعب الفييتنامي رد بالقول : انه يرغب بالتحدث للمجتمع الأمريكي عن الحياة والنظام والانتاج في المجتمع الشيوعي. وعمل في الاذاعة الفييتنامية معرفا بطبيعة الحياة في النظام الشيوعي ، وقام بتلك المهمة خير قيام حتى آخر يوم له قبل ان يطلق سراحه بعد توقيع اتفاق انهاء الحرب بين بلاده والفييتنام. فهل من تشابه بين بطولة الرجلين سيبراس وجون ماكين مع أن جون ماكين لم يسلم شعبه لمصاصي الدماء في الاتحاد الأوربي..؟

كانت أولى مؤشرات المساومة عندما استجاب سيبراس لطلب الاتحاد الأوربي بتنحي وزير ماليته مع ان الوزير المعني وسيبراس على اتفاق كامل بشأن الاستجابة لشروط الدائنين. فرغم الدعم الساحق لخيار (لا ) لسياسة الاتحاد الأوربي يوم الأحد 57 الحالي وافق سيبراس على املاءات الاتحاد الأوربي بقبوله برنامجا للتقشف أشد وطأة من ذاك الذي كان ساريا ابان الحكومة البرجوازية المنصرفة.

ومالم يكن بالحسبان أبدا أن يكون سيبراس قد وافق على برنامج التقشف الذي صاغته الثلاثية حتى قبل اجراء الاستفتاء في 57 ما يعني ان دعوته لاجراء الاستفتاء كانت تمويهية ، أراد بها الظهور وكأنه لا يقدم على خطوة دون أخذ موافقة شعبه ،  لأنه كان مقتنعا بأن نتيجة التصويت ستكون بـ ( نعم ) كما صرح بذلك وزير ماليته المستقيل فاروفاكس. لقد خدع الشعب اليوناني مرتان من قبل سيريزا ، مرة بخيانة وعوده الانتخابية التي انتخب بناء عليها في 25 1 2015 ومرة ثانية يوم خالف نتيجة الاستفتاء التي صوت الشعب فيها  بـ ( لا ) لبرنامج التقشف بأكثرية بلغت نسبتها 62% مقابل 38% صوتوا بـ (نعم). وبذلك يكون اليسار اليوناني ممثلا بسيريزا قد لوث بالوحل صورة اليسار العالمي بينما كان مؤملا ان يعزز من وحدة الحركة اليسارية العالمية وينعش آمال كادحي العالم بمستقبل أفضل.

أحدث المقالات