مواقف قادة الدولتين فوتت الفرصة على من يريدون إحداث فتنة بين الجزائر والإمارات بخلفية نوايا خبيثة ظاهرها حب الجزائر وباطنها تنفيذ أوامر التنظيم العالمي.
ردود الأفعال والضجة الواسعة التي خلّفتها تصريحات عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة الشيخ سلطان بن محمد القاسمي بسبب ربطه بين استقلال الجزائر وعلاقة الجنرال الفرنسي ديغول بالرئيس المصري جمال عبدالناصر، كشفت عن عمق في العلاقة بين الجزائر والإمارات، حيث لم يتمكن الإعلام المستقل والخاص، وبعض المثقفين، وقادة بعض الأحزاب الوطنية والإسلامية من تحويلها إلى قضية رأي عام على غرار ما حدث بين مصر والجزائر في عام 2010، خلال التصفيات المؤهلة لكأس العالم في جنوب أفريقيا، والسؤال هنا: لماذا لم تذهب ردود الأفعال بعيدا على أرض الواقع، بينما شكّلت ما يشبه الثورة في المجال الافتراضي عبر المواقع الإلكترونية، وفي وسائل ووسائط التواصل الاجتماعي، وما صاحب ذلك من نقد تحول إلى نقد، ثم شتائم وصلت إلى درجة البذاءة؟
قبل الإجابة عن السؤال السابق، لا بد من ذكر ثلاث ملاحظات أساسيّة تخص طبيعة الذات الجزائرية، بحيث لا يمكن التعايش معها ما لم تتم معرفة كنهها وردود أفعالها، وعلى العرب جميعهم- وليس فقط إخواننا في الخليج- أن يدركوا أهمية ذلك، حتّى نسهم معا في بناء علاقة عربية سوية ومشتركة:
أولا؛ الانتصار الثوري يُمثّل لدى الجـزائريين جميعهـم، مهمـا كـانت توجهـاتهم وأعـراقهم وجـذورهم، قاسما مشتركا، وأيّ مس به حتى لو من باب اعتباره فعلا بشريا قابلا للنقاش، هو من الجزائريين خيانة، ومن العرب عداوة، ومن فرنسا ومن رافقهـا أطماعا استعمـارية تستوجب الحرب، وكل هذه الحالات تتطلب ردود أفعـال تتجـاوز في حجمها ما قام به المنتقدون.
ثانيا؛ منذ قرون خلت، وهذا معطى تشترك فيه معنا المنطقة كلها من ليبيا مرورا بتونس والمغرب إلى موريتانيا، وتحديدا منذ حروبنا مع روما، شكلت لدينا الأرض عرضا، ونمت منظومة القيم وكبرت وتعمقت، في تجارب يوبا الأول مثلا، لتصبح الثورة “عرض العرض”. وهذا الذي يشكل في نظري عقيدة الجيش الجزائري الآن، حيث كنا ولا نزال، وربما سنبقى إلى يوم الدين، ننطلق من قناعة أننا نحارب وحدنا في هذا العالم، وأن مساعدة الآخرين لنا هي دعم مادي ولوجستي مثمن ومعترف به، ولكنه ليس دعما بشريا، مع أن الرئيس الراحل محمد بوضياف ذكر لي في حوار أجريته معه أن جنسيات مختلفة شاركت في ثورتها منها “ألمان وفرنسيون ويوغسلاف وأفارقة الخ”، لكن الجزائريين عموما يرفضون فكرة مشاركة الآخرين في ثورتهم على مستوى العمل العسكري.
ثالثا؛ هناك مخاوف محفورة في الذاكرة الجماعية من عودة الاستعمار من جديد، طبقا لتجربة مريرة تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، حتى لكأن هذه الأرض تتحرر لأجل أن تستعمر من جديد، ولهذا يرون أي نقد أو تشكيك أو حتى إطراء ومدح مبالغ فيهما لتاريخهم، وخاصة لثورة التحرير من فرنسا الاستعمارية، هما مدخل لعودة الاستعمار من جديد، وربما لهذا السبب تتعطل كل مشاريع الأجانب الاستثمارية، صحيح أنها تفشل وترحل بسبب بيروقراطية الإدارة، ولكنها أيضا تُواجه بموقف شعبي معطل، تحول مع الوقت إلى أيديولوجيا يتم الدفاع عنها بأساليب شتى.
تلك الملاحظات حالت دون تحولها إلى فعل بعد تصريحات الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، عوامل داخل الجزائر، وأخرى آتية من الإمارات. فبالنسبة للجزائر هي عدم اتخاذ السلطات الرسمية أي موقف، حتى أنها لم تعلق على مستوى وزارة الخارجية، ويبدو أنها تفاجأت بتصريح القاسمي، الذي لا يتطابق مع مواقفه وكتاباته، كما لا يتوافق مع العلاقات المميزة التي تجمع بين الجزائر والإمارات هذا أولا.
ثانيا تجربة الحكومة الجزائرية مع مواقف الأحزاب من القضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية، وفي الحالة الراهنة، منها من كان يدافع عن تاريخ الجزائر وثورتها، كما هو الحال بالنسبة لجبهة التحرير الوطني، ومنها من كان يريد تصفية حسابات تتعلق بموقف الإمارات من الإخوان المسلمين وتصنيفهم منظمة إرهابية، كما رأينا في موقف حركة مجتمع السلم ـ حمس ـ إذ دعت عبر نائبتها في البرلمان سميرة ضوايفية، وزير الخارجية رمطان لعمامرة، إلى الرد على تصريحات حاكم إمارة الشارقة والتي وصفتها “بالمهينة”، ولو تطلّب الأمر “قطع العلاقات بين البلدين”، محاولة تدعيم موقفها بالقول “إنني أحمل رسالة وصلتني من مجموعة من الشباب الجزائري”.
أما بالنسبة للإمارات، فإن التفاعل الإيجابي من قادتها أفشل فتنة الإخوان بمواقف حكيمة، جاءت في الاعتذار العلني من الشيخ سلطان القاسمي بقوله “إذا كان إخوتنا في الجزائر اعتبروا ذلك إجحافا بحقهم فأنا اعتذر عن ذلك ولهم كل الود والاحترام”، كما ظهرت في تغريدة أنور قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية، وقد سبقت تصريحات حاكم الشارقة، قال فيها “لا يجوز التشكيك بحب الإمارات للجزائر ولثورتها وتضحياتها”، معتبرا “الثورة الجزائرية أحد أهم فصول التحرر الوطني وعلامة فارقة في تفكيك عصر الاستعمار الأوروبي”.
كما قطعت الطريق أمام تضخيم الإخوان للحدث إشادة الشيخ منصور بن زايد آل نهيان نائب رئيس مجلس الوزراء وزير شؤون الرئاسة الإماراتية، بمتانة العلاقات التاريخية والأخوية بين الإمارات والجزائر، وذلك في اتصال هاتفي مع الوزير الأول الجزائري عبدالمالك سلال، منوها بالعلاقة الشخصية الأخوية الوثيقة بين الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات وعبدالعزيز بوتفليقة رئيس الجمهورية الجزائرية والعلاقات الثنائية القائمة على أواصر الأخوة ووحدة المصير المشترك، التي أرسى دعائمها القائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان.
كما استذكر الشيخ منصور بن زايد، ضمن حديثه عن الدور الرائد للجزائر على الصعيدين العربي والدولي، النضال البطولي والمقاومة الأسطورية للشعب الجزائري، والتي توجت بنيل الاستقلال التام من نير الاستعمار بعد نضال طويل مشهود قدم خلاله مليونا ونصف المليون شهيد. وكان لهذا الإنجاز الكبير الدور الجوهري في إنهاء الاستعمار في عدة دول.
لا شك أن المواقف السابقة من قادة الدولتين، قد فوّتت الفرصة على من يريدون إحداث فتنة بين الجزائر والإمارات، سواء بخلفية نوايا حسنة منطلقة من حب الجزائر، أو من نوايا خبيثة مبعثها هدف سياسي، ظاهره حب الجزائر وباطنه تنفيذ أوامر التنظيم العالمي.
نقلا عن العرب