بعد ان انتقل الوالد الى رحمة الله في السبعينات من القرن الماضي وتفرق الاخوان كل في سبيله داخل وخارج العراق، اصبح بيت الاسرة الكبير الذي كان يضمنا جميعا واسعا علي وعلى والدتي فلم نشأ ان نبيعه احتراما لذكرى ابي . فانتقلنا الى منزل اصغر وقررنا ان نؤجر دار الاسرة الكبير كي يستفاد الجميع من بدل الإيجار .
كنت اصغر اخوتي ومازلتُ طالبا اعزبا بطبيعة الحال وأمامي سنوات طويلة قبل ان اتخرج وابحث عن سكن مستقل . وبعد ان عرضنا الدار للإيجار اتصل بي الدلال يخبرني ان احدى مديريات وزارة التربية تبحث عن دار للإيجار في هذه المنطقة بالذات في بغداد وانه من الملائم ان نؤجر العقار لتلك الدائرة الحكومية ضمانا على الأقل لتحصيل بدل الإيجار حيث ان الحكومة لا تتلكأ عادة في تسديد مبلغ الإيجار مقارنة بمستأجر اعتيادي . وهكذا تم تأجير العقار حسب الأصول وانتقلت تلك المديرية الى دارنا وكانت عائلتي سعيدة بهذا الإجراء .
ومضت الأيام والسنين تخرجت خلالها من الجامعة واقترنت بزوجتي ورزقنا طفلين مكونين أسرة تبحث عن سكن مستقل ككل الأسر فكان طبيعيا ان ابدأ بالبحث عن دار اشيدها ولكن قبل ذلك علي ان اجد أرضا ملائمة أتمكن من شرائها ولكن هيهات فأن أسعار الاراضي ارتفعت بشكل مخيف خلال الثمانينات .
وقد تناهى الى علمنا ان تلك المديرية التي استأجرت دارنا قد انتقلت الى موقع اخر اكبر مساحة وان دارنا قد اصبح مخزنا مهملا تتكدس فيه المناضد والدواليب والأثاث القديم الخ … وأهملت صيانة العقار بالكامل فأصبح خربة لا تسر العين عند مرآها . وهكذا أشارت علي عائلتي ان احاول ان اطلب من وزارة التربية إخلاء دارنا كي أتمكن من فرز مساحة صغيرة في حديقة الدار الكبيرة كي ابني عليها مشتملا.. متعللين بأنتفاء الحاجة الى دارنا وانتقال المديرية الأصلية الى موقع اخر . فقدمت طلبا الى الدائرة القانونية في وزارة التربية فجاءني الرفض فورا مستندين الى ان من حق وزارة التربية ان تفعل ما تشاء بالدار بغض النظر عمن يشغل العقار .
استشرت احد المحامين حول الموضوع فأجابني انه لا سبيل لفسخ عقد الإيجار علما ان بدل الإيجار الأصلي اصبح تافها بعد التضخم المتدرج في الأسعار التي مرت به السلع والأراضي والعقارات و أضاف انه اذا حاولت ذلك عن طريق المحاكم فان ذلك سيستغرق سنين طويلة وليس هناك ثمة بصيص من أمل في ان اكسب القضية . فكانت هذه صدمة مزدوجة الإحباط ،، حيث لا املك أرضا ابني عليها عشاً كما وان ما نتقاضاه من بدل إيجار الدار اصبح أرخص من التراب . ولكن المحامي أشار علي ان احاول محاولة اخيرة فاكتب طلبا الى وزير التربية عله يتفهم الحال لأسباب إنسانية مشروعة .
وكما يتعلق الغريق بالقشة الطافية حررت بنفسي طلبا معنونا الى وزير التربية وكان آنذاك الاستاذ عبد القادر عز الدين . فكتبت في بداية الطلب الآية الكريمة ” ومن آياته ان خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة” وأذكر أني كتبت ان هذه ليست دعوة لحضور عرس بل لأشرح فيها ان الله عزوجل يقصد في عبارة لتسكنوا اليها ان الزواج ناموس الحياة لانه من سنن الله كما وانه يشبه دار السكن حيث تسكن فيه النفس وتهدأ وتبتعد عن الاضطراب والقلق . ومضيت في طلبي قائلا أني لا أملك دارا لأن وزارة التربية تستأجر دارنا الكبيرة بأبخس الأثمان وياليت لو كان دارنا يؤدي خدمة اجتماعية لمنظومة التعليم ، بل اصبح مخزنا مهملا حيث بأمكان الوزارة ان تنقل ذلك الأثاث الى مخزن معد لهذا الغرض (جملون) في أطراف بغداد حيث لا يشترط بالمخازن ان تقع حصرا في منطقة سكنية . وأنهيت رسالتي قائلا لقد طرقت باب الدائرة القانونية فلم يجيروني ،، وها ان الله يتطلع إليك يا سيادة الوزير وانت تقرأ رسالتي ليرى ان كنت ستدخل السرور الى قلبي،،، فأن استجبت لي فسأبقى شاكرا لك صنيعك ما تبقى من عمري.. وان لم تستطع ذلك لسبب من الأسباب فلن أقول اكثر مما قاله أيوب عليه السلام “ربي أني مسني الضر وانت ارحم الراحمين” . أوصلت طلبي هذا الى استعلامات وزارة التربية داعياالله ان أفوز بمقابلة الوزير ،، حيث كان الوزراء يخصصون يوما في الأسبوع لمقابلة المواطنين اذا قرر الوزير ذلك أو قد يقوم بالتهميش فقط على الطلب .
وبعد حوالي ثلاثة أسابيع اتصلت بي استعلامات وزارة التربية تخبرني انه قد تم تحديد موعد لي لمقابلة السيد الوزير بعد ايام قليلة . ومنذ بداية الدوام الرسمي ليوم المقابلة انتظرت بقلق الى ان حان دوري فأدخلني عليه السكرتير وكانت هذه هي المرة الاولى والأخيرة في حياتي التي التقي فيها بهذا الوزير . وبعد ان أشار علي بالجلوس أمامه سألني مباشرة وشبح ابتسامة يرتسم على وجهه ” من الذي كتب لك هذا الطلب ؟” فأجبته انا الذي كتبته ، فزادت ابتسامته وقال “ان هذا ليس امتحان بكالوريا ولن ارسبك ان أخبرتني عن الذي ساعدك في كتابة هذه الرسالة، كما وأنك ما زلت شابا في مقتبل العمر ” فأجبته ان الكتابة هي احدى هواياتي وأني لن اجد شخصا سيكتب لي بهذه الحرارة والصدق لآني انا المعني اولا وأخيرا بهذه القضية . فقال “انا سعيد ان نظامنا التعليمي قد جعل من شبابنا رجالا قادرين على الكتابة بهذا المستوى ،، كما وأني تحريت عن تفاصيل طلبك فوجدت انك على حق حيث ان الوزارة ليست بحاجة الى داركم وان من البديهي ان تُنقل محتويات المخزن الى جملون عادي وليس دارا للسكن ،،، انت أولى بعقارك فأبني عليه دارا وطب نفسا” .
وخلال ايام أُخلي العقار فقمت بإفراز مساحة صغيرة في الحديقة بنيت فيها اول دار لي وكلما كان البناء يعلو كان قلبي وعقلي يمتلأ اكثر فاكثر امتنانا وإجلالا لهذا الوزير العادل الذي قابلته عشرة دقائق فقط كانت كفيلة ان تغدق الاطمئنان والأمان على حياتي وحياة عائلتي .
وعندما استذكر الان بعد مرور ثلاثين عاما على هذه الحادثة أتذكر كذلك ان مكتب الوزير لم يطالبني برشوة لاسعاف طلبي كما ان الوزير لم يسألني ان كنت سنيا ام شيعيا ام بعثيا … لقد كان فقط مسؤولا عراقيا عادلا يتصرف بما يمليه عليه ضميره فأنصف مواطنا عراقيا التجأ اليه بعد ان سدت في وجهه كل السبل .
سيدي عبد القادر عز الدين لا أدري حقاً ان كنت مازلت بين ظهرانينا في هذه الدنيا الفانية ام انتقلت الى دار الخلود ولكني أودّ ان أطمئنك الى ان شهامتك قد سكنت وجداني قبل ان اسكن داري الذي يسرت لي امر بنائه .