ان العراقيين, بعد 7 5 سنة على اندلاع “ثورة 14 تموز”, يحتفظوا ويحتفلوا بذكراها, التى قد انجزت فى فترة قياسية مشاريع بالغة الاهمية للبلد والشعب والتى ما زالت قائمة لحد الان, والعراقيون يحتفظوا وبشكل خاص, بذكرى عطرة للزعيم عبد الكريم قاسم, العراقى الاصيل, الامين الذى كان فوق الطائفية والطائفيون, واستطاع ان يقدم , بالعمل مع رفاقة, واستعداد المخلصين ان يفتحوا ابوابا واسعة للمستقبل ويؤكدوا على قدرة الانسان العراقى على العمل والتطور, انها لم تقتصر على مشاريع البنى التحتية البالغة الاهمية لكل تطور, وانما ايضا الاهتمام بالمؤسسات العلمية والصحية, هذا بالاضافة الى الغاء قانون العشائر, الذى وحد العراقيون وجعلهم جميعا متساوون امام القانون, هذا الانجاز كان كبيرا ومهما جدا فى التعامل مع الشعب كوحدة متكاملة .
فى الجانب الاخر, دون ان نقلل من انجازات “ثورة تموز”, فانها قد اسست لامكانية تغير الحكم والانقلاب علية باستخدام الجيش” الانقلابات العسكرية”بشكل سريع وفعال , وقد استطاعت “قيادات حزب البعث” ان تستخدم الجيش لهذا الغرض عدة مرات, جماعات نشيطة تفتقر الى القواعد الشعبية, ان تتعامل مع بعض الضباط فى المواقع الحساسة المؤثرة, ان تحرك قطاعاتها العسكرية وتحتل بعض المراكزالمهمة فى المدينة ومحطة الاذاعة وتعلن “القرار رقم واحد”.
هذه الحقيقة تقود بنا الى الوقوف على هشاشة البناء الفكرى والايديولوجى للقوات المسلحة, وبشكل خاص القيادات العسكرية التى اخذت تفكر بمصالحها الشخصية ومكانتها الاجتماعية, لقد اصبحت المؤسسة العسكرية مرتعا خصبا لتحقيق الطموحات الشخصية والحصول على الامتيازات بعيدا عن التدرج الوظيفى. ان المؤسسة العسكرية منذ الحرب العراقية الايرانية (1980 – 1988) ولحد اليوم حالة مخجلة للفساد الادارى والمالى والخيانة الوطنية.
ان نجاح الانقلابات بهذه السرعة, منذ “انقلاب 14 تموز” يؤكد ايضا على هشاشة التربية السياسية وانعدام العقلانية لعموم ابناء الشعب والذى بدأ واضحا التاثير السريع للعواطف والمشاعر والشعارات البراقة فى تحريك الجماهير وامكانية توجيهها من قبل القيادات السياسية والحزبية وفقا لحاجياتها والتى تبيح لنفسها استخدام العنف والقوة ضد ابناء الشعب والمعارضين ان تتحول الى قوى ارهابية!! لقد اسس انقلاب تموز واللاوضاع المحيطة به والتطورات التى رافقته الى “عقلانية”
استخدام العنف والارهاب ضد الخصوم السياسيين والذى اخذ يتصاعد مع السنين وانظمة الحكم.
جاء “ثورة 14 تموز” مفاجئة كبيرة للشعب العراقى, اذ لم يكن قبل هذا التاريخ حصول اى حركة تمرد او عصيان لفصائيل من الجيش العراقى ضد نظام الحكم , او رفض لسياسته ومشاريعه, الا ان تنظيمات سرية , خاصة من قبل الحزب الشيوعى ,الذى قد وطد دعائمه فى مختلف اصناف ومراتب الجيش , وكما تشير الدراسات والبحوث فان “تنظيم الضباط الاحرار” الذى قام بالثورة, كان عددا كبيرا من اعضائه اما اعضاءا فى الحزب الشيوعى او من المؤيدين له والمتعاطفين معه.
كان العراق احد الولايات التى تدار وتحكم من قبل الولاة الاتراك الذى يبعثهم الباب العالى فى اسطمبول, اما الدولة العراقية الحديثة فهى نتاج الاستعمار البريطانى الذى قام بتكوينها, وذلك بما يتفق مع مصالحة الستراتيجية من حيث الموقع الجغرافى ووقوعه على طريق الهند, بالاضافة الى مصالحة الاقتصادية التى كان النفط منها يشير الى ثروات هائلة فى عصر بأمس الحاجة الى الطاقة. ان الدولة التى تكونت, نظامها الملكى, دستورها والحكومات التى اخذت تتولى السلطة كانت مشروعا بريطانيا, وصورة اولية مبسطة عن نظام الحكم فى لندن, بما يعنى نظام ملكى دستورى, واحزاب وانتخابات تتداول من خلالها السلطة. ان الاحزاب التى تأسست وكان لها دورا فاعلا, حزب الاتحاد الدستورى الذى يقوده السيد نورى السعيد, وحزب الاستقلال الذى يقوده السيد مهدى كبة والحزب الوطنى الديمقراطى, الذى كان يقوده السيد كامل الجادرجى. كانت هذه الاحزاب تعمل فى اطار الدستور, وكان الحزب الوطنى الديمقراطى الذى كان من اعضائه كبار مثقفى العراق, يمثل بشكل او بأخر الطبقة الوسطى الصاعدة. لايوجد خلافات حول الشكل الصورى للديمقراطية ومحدوديتها, كما لايوجد خلاف على ان كبار وزراء الدولة لم يتمتعوا بأستقلالية القرار السياسى فى ظل حقيقة السيطرة البريطانية.
الى فترة قصيرة قبل سنتين من حدوث “ثورة تموز” كانت موارد العراق وميزانية الدولة ضئيلة جدا, سوى ان كانت عن موارد النفط او ما كان يصدر الى الخارج من مزروعات وتمور, الا ان الحكومة وبالرعاية الانكليزية كانت تسير بالطريق الصحيح والذى يوصل فى النهاية الى الاهداف المتوقعة والمرسومة. ان الشخصيات ىالقيادية الى سنة 1958 كانوا على درجة جيدة من الخبرة العملية والوظيفة ( ضباط وخريجى المعاهد العلمية فى اسطمبول) وكانوا جميعا من الذين اخذوا قسطا وافرا من التعليم والمعرفة, بالاضافة الى انهم كانوا من ابناء عوائل ذات اصول حضرية, لهم جفرافية وتاريخ ولم يكونوا من حديثى النعم. هذا يعنى ان الوظيفة والمكانة الاجتماعية ليست جديدة عليهم ولم تزيدهم شرفا كانوا بحاجة الية. وكان لهؤلاء الرجال دورا كبيرا فى استقرار مسيرة العراق الحديث, والذى بتلك الامكانيات البسيطة المتوفرة انذاك قد قطع العراق اشواطا كثيرة فى
فى سلم التقدم: كان الاهتمام بالتعليم واسعا وفتحت المارس فى الاقضية والنواحى وارسلت البعثات العلمية الى الدول الاوربية والولايات المتحدة الامريكية والتى شملت الموسيقى والفنون التشكلية ايضا, كما ان المستوى العلمى فى المدارس كان جيدا والدوام يستمر صباحا وبعد الظهر, اما عن الجامعات فقد كان معترف بها من قبل الجامعات العالمية خاصة بالنسبة للطب والهندسة. لم تاتى فترة الابداع العراقى فى الشعر والفنون التشكلية والعمارة من فراغ وانما لتوفر الرعايا وحد ادنى من الحريات فى العمل والتجريب من قبل الحكومة. ان العراق اول بلد يدخل الية التلفزيون, واول بلد ايضا دخل الية العلاج النووى, وحينما تطورت موارد العراق من خلال اتفاقية النفط الجديده استدعيت المعاهد العلمية العالمية لاستشراف الامكانيات ووضع خطط مستقبلية للبناء والتعمير وكان ضمن هذه الدراسات والخطط المشاريع الاروائية الكبيرة والسدود لدرء الفيضان والاحتفاظ بالمياة والاهتمام بالزراعة, ان الحكومات المتعاقبة قد وجدت الدراسات التى تسمى ” دراسات مجلس الاعمار”
اذا كانت مرحلة الحكم الملكى بهذه الايجابية فلماذا اذن حصلت “ثورة تموز”, والحقيقة فان “انقلاب تموز”ا لم يكن ضروريا وجاءت سابقة لاوانها 20 سنة على اقل تقدير, ان ايجابية المرحلة لا تقف عند مقارنتها بالعهود اللاحقة التى تولى الحكم والقرار فيها جماعات واحزاب غير مؤهلة اجتماعيا وسياسيا ومهنيا للحكم وبذلك ادخلوا البلد والشعب فى مغامرات كارثية استنزفت ثرواته وقواه, وانما ايضا بالتحشيد والاستقطاب السياسى للجماهير العراقية ومن منطلق الوعى المغيب الخاطىء وحرق المراحل والقفز على قوانين التغير الاجتماعى الاقتصادى.
كانت الاحزاب , بما فيها الحزب الوطنى الديمقراطى, المعارض, يعمل فى اطار الدولة ومؤسساتها ودستورها, كما يملية علية مفهومه للعمل السياسى فى “النطم الديمقراطية” وفى الدول تحت الاستعمار المباشر ونظام الوصاية. كان تاسيس الحزب الشيوعى العراقى كحزب جماهيرى ثورى والذى يحمل فكرا اخرا ويعمل باسلوب وايديولوجية مختلفة, وتنظيم سرى يقوم على الكوادر الثورية المنظمة والمدربة لتحقيق الاشتراكية بقيادة الطبقة العاملة( البروليتاريا), كان الحزب خارج اطار منظومة الاحزاب واسلوب عملها فى تحقيق التقدم عن طريق الاصلاح والتراكم الكمى والمعرفى لمختلف حقول الحياة, ان الحزب الذى من اجل تحقيق اهدافه كان فى تناقض مبدئى مع الحكم الملكى ويحاول بكل الطرق الى سقوطة. ان الحزب الشيوعى العراقى كان له دورا كبيرا فى نشر “وعى سياسى وطنى” مغيب يقوم على العواطف والمشاعير والوعود, ونجح فى تحشيد الجماهير ضد الحكومة والنظام الملكى.
لقد توسع الحزب واخذت قواعده تنتشر فى النواحى والاقضية والمدن, مستخدما فى ذلك وسائلة الاعلامية من جريدة الحزب الرسمية( القاعدة) والمنشورات والاجتماعات السرية
وتجنيد الاعضاء وتثقيف المؤيدين والقيام بمظاهرات دورية صاخبة فى مختلف المناسبات, والتى تدين الدولة وخضوعها لاستعمار. والحقيقة فقد استطاع الحزب السيطرة على الشارع العراقى بمختلف الشعارات والوعود بمستقبل زاهر امين, كما هو الحال بالنسبة لشعوب الاتحاد السوفيتى الذى يتكون من مختلف الاديان والقوميات, والذى استطاع بقيادته الحكيمة ونظامه الاشتراكى الانتصار على الفاشست والنازيين فى الحرب العالمية الثانية وتصنيع وكهربة الاتحاد السوفبتى المترامى الاطراف فى فترة قياسية, هذا بالاضافة الى الانتصارات التى يحققها الرياضبون السوفيت واعضاء الكتلة الاشتراكية فى السابقات الرياضية الدولية من انتصارات التى تعبر عن ارجحية النظام الاشتراكى. كان اسلوب الحزب فى التحشيد والكسب الجماهيرى يقوم على التهويل والمبالغة فى نوصيف الحكومة ومشاريعها, ومناشدة العواطف والمشاعر والرغبات والوعود, بعيدا كل البعد عن مناشدة العقل والتحكم الية فى اتخاذ القرارات,وليس هذا فحسب وانما عملوا على تعطيل العقل والاستغناء عنه, ولذلك فان الاعضاء والمؤيدين يشكلون خزينا هائلا من الطاقة للعمل والنضال والمقاومة, مثلهم فرق الجماعات التبشيرية التى تنطلق من انها تقدم للبشرية دينا جديدا ينقذهم من الفقر والحاجة والظلم. ان هؤلاء يعتقدون ايضا بان ما يبشرون به يمثل الفكر والنظرية الصحيحة الوحيدة الشاملة المطلقة والتى يجب ان يضحى من اجلها بكل ثمين. لذلك نرى حجم التضخم فى الفكر بانهم يفتخرون باكثرية السجنان السياسين الذين بزج به النظام فى سجونه المظلمة, وبما انهم على ذلك فانهم يمثلون المناضلين الاكثر صمود وتضحية والاكثر شجاعة واخلاص. هذا يعنى انه شرف عظيم للاعضاء والمؤيدين فى الانتماء الى هذا الحزب وحمل افكاره ونشرها
فى الجانب المهم ايضا وهو تكفير وتجريم النظام الملكى والحكومة وتخوين الشخصيات العراقية النافذة كمبدأ اساسى, ولذلك فهو(الحزب) لم يساهم ولم يقدم مشاريع ومقترحات لتحسن الاوضاع بالعراق فى اطار الايديولوجية االسائدة والوصاية اللاستعمارية, التى يجب ان تدرك كحقيقة قائمة لبلد صغير بامكانيته البشرية والمادية المتواضعة.,كما ان الحزب وقف ضد توجه الحكومات فى سعيها لجلب الاستثمارات الاجنبية وادخال التكنولوجية وتشغيل الايدى العاملة, بالاضافة الى اعتيار الى مشاريع السدود بانها مطارات مائية يستخدمها الاستعمار ضد الاتحاد السوفيتى. ان هذا الوهم والنرجسية للمنظرين, بالاضافة الى ان المناداة بالاشتراكية, والعمل بها فى بلد لم تتخطى فية تطور قوى الانتاج مراحلها الاولية ولم تتكون طبفة عاملة يمكن ان توصف بالبروليتاريا. هذا التخبط فى الفهم والادراك لحركة التاريخ, والاستعداد للتراشق بالنصوص ساعد الحزب على التصور بان عملية حرق المراحل فى العراق المستعمر من قبل قوة عظمى, يمكن ان تحصل وتنجح كما حصلت فى الاتحاد السوفيتى بقيادة لينين والبولشفيك فى اكتوبر 1917 ولذلك فان الاعضاء الحزبين والمؤيدين والمتعاطفين يشكلون خزينا هائلا من الطاقة يمكن ان تعمل وتنفجر حين يشار اليها او تبادر بلعمل ذاتيا وفقا لرؤيا عاطفية حماسية مأزومة,
حينما اصبحت الاغتيالات والانتقام والسجن لم يتهم من دون اى سند قانونى ونشر الحبال والسحل ظواهر رافقت انقلاب 14 تموز والتطروفات التى مارستها القوى السياسية الفاعلة. هذه التطرفات من نتاج عدم العمل والتكامل مع مرحلة االبناء الوطنى والاشتراكية الديمقراطية التى ينبعث عنها قواعد العمل السياسى الديمقراطى الذى يؤكد على الديمقراطية والحوار وحقوق الانسان.
ان ” انقلاب 14 تموز” كان نتيجة منطقية لوعى وطنى صادق, ولكنة لم يقوم على التحليل العلمى الدقيق للظروف الموضوعية القائمة فى العراق والاوضاع العالمية فى ظل الحرب الباردة وصعود امريكا كدولة عظمى, كما ان قيادات الضباط الاحرار لم متوافقة فى افكارها وتصورات عن بناء الدولة والمجتمع ولم تكن متوافقة فى ثقافتها السياسية ولذلك فقد ظهرت خلافات عميقة فيما بعض, كان البعض منها قائم على اساس طائفى والذى اخذ لباسا سياسيا لاحقا ليكسبه بعضا من الشرعية, ومع ذلك فاننا لا نشك فى اخلاص ووطنية الضباط الاحرار. ان معركة الضباط الاحرار مع الداخل, فيما بينهم ومع القوى المتضامنة مع الحكم الملكى, والمعارك التى تفجرت مع الاستعمار وقضايا الامتيازات والمعاهدات حول النفط , بالاضافة الى المطالبة بالكويت كبلدة عراقية بعثت على اجواء الحماس والانفعال والكبرياء, ولكنها كانت اكبر من قابلية الضباط الاحرار على ادارة هذه العمليات والتحكم بها, ولكنها قد اكملت الطوق لخنق الثورة واسقاطها . ان النهاية المفجعة للثورة بالصيغة التى تمت بها , بنوعية الانتقام والكراهية والعنف التى تم ممارسته, تمثل بداية اولية للانظمة القادمة التى لم تستخدم غير العنف فى مختلف تجلياته فى التعامل مع الشعب والذين يخالفونهم بالفكر, انها مأساة عراقية بأمتياز ان يتصاعد العنف مع الانظمة والسنين ويصبح الانتقام وقتل عشرات الالاف امرا اعتياديا.
لم يكن النظام الملكى والحكومة بالخيانة والعجز مثلما وصفها الحزب الشيوعى وقام بتكفيرها وتجريمها, انهم كانوا رجال دولة وتفاعلوا مع الظروف الموضوعية للعراق فى ظل السيطرة والاستعمار البريطانى بمهنية عالية واستطاعوا السير بالعراق بخطوات متزنة ثابتة, ولو قدر استمرارها ولم توقف عن العمل بالانقلاب العسكرى, كان العراق اليوم فى وضع متقدم فى الشرق الاوسط مع تطور ملموس محسوس بتطور لقوى الانتاج. انها ليس مغالاة وليس الحنين الى الايام الخوالى, الزمن الجميل, تمثل اكثر المراحل التى عاشها العراق والعراقيين تطورا وحضرية. ان ان انقلاب 14 تموز كان فى البداية فسحة امل واشراقة نحو المستقبل والتى تحولت سريعا الى فشل واحباطات وانتكاسات ونكوص, وخلقنا لنا عدوا عنيفا قويا يتربص لنا و ويغلق الابواب امامنا وينصب نخب سياسية للحكم فاقدة للاهلية والمهنية والشرف والاخلاق.