عندما قرات ما ورد في وثائق وكيليكس، وجدت نفسي مندفعا الى إعادة قراءة كتاب بريمر (عام في العراق) خصوصا ان ما ورد في كتاب بريمر، خطير جدا ويشير بالدليل المادي المباشر، الى صور كثيرة للتعاون والعمل مع القوات المحتلة الامريكية لغزو وتدمير العراق، ووصول حال الدولة العراقية الى ما وصلت اليه، من ان تكون في الصدارة السلبية في كافة مقاييس المنظمات والمؤسسات الدولية المعنية بمقومات المجتمع العصري والفساد والانتهاكات وغيرها، بل حتى جواز سفرنا أصبح في مرتبة متدنية.
أمضى السفير بول بريمر عاماً في العراق ثم أصدر كتاباً تحت عنوان: عام قضيته في العراق، تضمن تجربته وانطباعاته وإنجازاته، والكتاب وثيقة مهمة وتاريخية من موقع الحدث الميداني لأرفع مسؤول امريكي حكم العراق، الكتاب يغطي أكثر من ثلاثة عشر شهراً قضاها بريمر ممثلاً للاحتلال الأمريكي، في العراق، بين 12 أيار 2003 و 28 حزيران 2004، وما تلاه من ترتيبات ادارية وسياسية في ظرف معقد ومتداخل ومتناقض، هذه الفترة المليئة بالأحداث والاسرار والخفايا والتحديات التي ما تزال غامضة وغير مكشوفة ولم يترشّح منها سوى القليل، ويعرض بريمر انطباعاته إزاء طاقم الحكم والقوى والشخصيات العراقية (السياسية والدينية) التي تعاونت معه.
ولم يكن بول بريمر سفيراً او مسؤولاً امريكياً حسب، بل انه معتمدٌ ومبعوث قريب من الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش، الذي منحه صلاحيات واسعة تكاد تكون مطلقة لحكم العراق، ويؤكد بريمر: ان الرئيس بوش برّ بوعده وسلمني في 9 ايار (مايو) رسالة بتعييني مبعوثاً رئاسياً الى العراق ومنحني سلطة تامة على موظفي الحكومة الامريكية وانشطتها واموالها هناك، وتبعه رامسفيلد بتعييني مدير سلطة الائتلاف الموقتة وتفويضاً بكل الاعمال التنفيذية والتشريعية والقضائية” في العراق (ص-21)
الكتاب اذن ومن موقع المسؤولية الاولى يعتبر مرجع معتبر قانونا على المستوى العراقي والدولي لحاكم بأمره ومسؤول للقوات المحتلة التي أصبح اسمها الرسمي القوات المتعددة الجنسيات خصوصاً بعد قرار مجلس الامن الدولي رقم 1546 الصادر في 8 حزيران 2004.
أن بريمر رغم كل ذلك يبقى مسؤولا عما يقول وما يكتب، صدقاً او مبالغة او افتراء، والوثيقة خبرٌ وشهادة، اذ انها تبوح بالكثير من الاسرار والقضايا، ولعل اهمية هذه الوثيقة او الشهادة تتأتى ايضا عن شخصية ومكانة من يدلي بها، وما ذكره بريمر يعد استكمالاً واضافة خطيرة ومهمة لمحاضر جلسات مجلس الحكم الانتقالي المنشورة في بيروت (المدون فيها مظاهر وممارسات وتصرفات تؤشر بالدليل للتعاون مع المحتل)، وبالتالي فهو يتحدث عن فترة ما تزال بعيدة عن دائرة الضوء خصوصاً بعد مداهمة الدولة العراقية وتدميرها وسرقة كافة وزاراتها ومعاملها ودوائرها وحل مؤسساتها العسكرية والامنية، وبسبب ذلك حدث فراغ أمنى وسياسي مرعب ومخيف.
ان ما جاء بكتاب بريمر شهادة شاملة متوفرة في ظل غياب شهادات اخرى قريبة من قلب الحدث او ملامسة له لفترة مليئة بالمصاعب والتحديات والانهيارات السياسية والأمنية والاخلاقية.
ان كتاب بريمر أورد أسماء كثيرة تعاونت مع القوات الامريكية المحتلة، والشعب العراقي نسى ما ذكره بريمر من شخصيات وزعامات دينية وسياسية تامرت مع المحتل، وانطلق باتجاه ما ورد في تسريبات وكيليكس بالرغم من ان هناك فرق كبير في قوة الدليل ومركزه القانوني بين الأدلة الأخرى بين ما ذكره بريمر وما ورد في تسريبات وكيليكس، ومن الناحية القانونية وضمن ميدان الاثبات الجزائي فان ما ورد على لسان بريمر دليل مادي مباشر يصلح حجة اتهام معتبرة ويصلح ان يكون دليل ادانة لوضوحه وإقرار ومكانة وسلطة مطلقه، ويعد وثيقة لا يشوبها التحريف، وفي كثير من وقائعها تصلح ان تكون ادلة سائغة لها معينها الصحيح من ما حصل في العراق من تدمير نتيجة الاحتلال، وفي كتاب وزعت منه الاف النسخ، اما وثائق وكيليكس؛ فإنها كما بيناها في مقالنا السابق لا تعدوا ان تكون الا قرائن ضعيفة وادلة ظرفية قاصرة، ولم ينتج عنها دليل مادي يصلح للاتهام، الا اذا تعاضدت مع ادلة او قرائن او شهادات او إقرارات أخرى، والشعب بحاجة الى اجلاء موقف وتبيان رأي وكشف للحقيقة، خصوصاً وان البعض كان يظهر العكس ويوحي بالضد مما يذكره بريمر من مواقف او آراء علنية او سرية، بما فيها تواطؤات وشغب وتحريضات ووشايات وتعاون مع المحتل.
ان ما ورد في تسريبات وكيليكس وما ورد بكتاب بريمر عن الأشخاص والأسرار والخفايا يحتاج إلى التحقيق والتوثيق والتدقيق والإيضاح والرد، لان في ذلك قد تحققت كافة العناصر القانونية لجريمة التعاون والعمالة مع المحتل والمطلوب من تلك الشخصيات الآن أن تتكلم، والأهم من ذلك كله أن يطلع العراقيون والعالم أجمع على الردود والإيضاحات ليس من باب الفضول العلمي والشغف المعرفي وطلبا للحقيقة، بل ليتبينوا بأنفسهم تاريخهم القريب وتاريخ شخصيات تحولت إلى زعامات وقيادات تعاملت مع الاحتلال سلبا أو إيجابا، وما زال بعضها يتفاخر بالأدوار التي لعبها والمكاسب التي حققها، بل راينا من كان اول المتبارين في الاعلام عندما ظهرت أسماء في تسريبات وكيليكس وبانت تصريحاتهم النارية بصدد الخيانة العظمة والتخابر ونسوا انهم ممن وردت أسمائهم بكتاب بريمر، وهو رئيس حكومة العراق في زمن الاحتلال، وكلامه في الكتاب وثيقة دامغة لا يمكن تجاوزها ومهما تكن مصداقيتها فإنها اعلى مرتبة في القانون من تسريبات وكيليكس من حيث قوة الدليل؛ لان جميع ما ورد في كتاب بريمر لم تنفيه الحكومة الامريكية، وبريمر سَطرَ تجربته في العراق ليس كونه موظف بسيط وانما الحاكم بأمره في العراق ولديه كل الصلاحيات الممنوحة اليه بموجب القانون الدولي والامريكي، فكلامه وايراده لأسماء تعاونت مع المحتل وثيقة دامغة تحتاج من الحكومة القيام بإجراءاتها منذ فترة طويلة لا ان تقتصر على تشكيل فريق فني بوثائق منشورة بموقع تجسسي قد يكون فيها مصداقية، لكننا نتعامل مع وثائق مستنسخة، بمفردها، ليس لها أي اعتبار قانوني خاصة اذا خلت من صحة صدورها، ويبقى بريمر مسؤولا عما يقول وما يكتب.
ان تلك التساؤلات والافتراضات باتت اتهامات وتحولت الى ادانات خطيرة في ظل عدم الاجابة عليها وإجلاء حقيقتها من جانب الشخصيات والزعامات والجهات التي تناولها بريمر، لتحديد المسؤوليات ووضع الامور في نصابها احقاقاً للعدالة، وهذه الشهادة واليوميات او المذكرات أصبحت تاريخاً وحقيقة من حقائقه، تستوجب اتخاذ كافة الإجراءات القانونية المطلوبة لأدانة المتورطين في محاكمات عادلة، من الدولة العراقية.
تدخل الدولة العراقية في تحد حقيقي لإثبات قدرتها على تطبيق القانون على الرؤوس الكبيرة الواردة اسمائها في الوثائق المسربة التي نشرها موقع وكيليكس، وتشكل حرجاً كبيراً لها في كيفية التعامل مع من ورد اسمه في كتاب بريمر (ان كانت هناك مسؤولية وطنية).
ان الحكومة العراقية عندما تم تسريب وثائق وكيليكس الأخيرة كانت محرجة قانونا امام هذه الحقائق، خاصة عندما تنظر للموضوع بعموميته وبتواريخه السابقة واللاحقة قبل الاحتلال وبعده، وستصل الى حقيقة مفادها؛ ان موضوع هذه الوثائق سيكون كمصير الحقائق التي أوردها بريمر في كتابه، وبعدها الوثائق التي صدرت قبل ثلاث سنوات من نفس الموقع والتي كانت ذات علاقة بالعراق والتي كان مآلها ركنها في الرفوف ونسيانها.
ولعل أبرز وأهم وأخطر ما ورد في كتاب بريمر عن الشخصيات العراقية يتعلق بالمزاعم التي يرددها بريمر عن مراجع دينية كبار لها هيبتها ووقارها، وهذه المزاعم تحتاج من ذوي العلاقة وأصحاب الشأن إلى وقفة جدية ومواجهة مسؤولة ومراجعة صريحة وشفافة وعلنية، تنبع من الحرص على حرمة المرجعية ومصداقيتها، واعتبارها وسمعتها وعلى كرامة العراقيين، خصوصا ان بريمر يؤكد هناك تعاون وثيق له بين هذه المراجع وشيوخ عشائر لأكبر عشيرة بالعراق فمثلا يذكر بريمر عن لقائه بعشرة شيوخ من هذه العشيرة حيث يذكر بريمر: (وقبل انتهاء الاجتماع الذي دام ثلاث ساعات و… وتبادل التهاني بمناسبة تحرير العراق، تحدث كبير الشيوخ، وقال ‘سعادة الحاكم أود ان اؤكد لكم ولاء شمر الدائم لكم وللدول التي حررتنا’. وصدرت همهمات بالموافقة من الآخرين، واستطرد يقول ‘ان ولاءنا ثابت لا يتزحزح’، واضاف وهو يضع يده على صدره، ان هذا الشعور كان في عقله، ولكن الأمر الاهم هو انه مكتوب في قلبه وقلوب زملائه، وهز الآخرون رؤوسهم بالموافقة ..)، فالأمر بحاجة الى تدقيق وتوضيح خصوصاً وان ذلك يلحق اساءة بالغة بالمرجعية الدينية الرشيدة وشيوخ عشائر كبار وسياسيين؛ فيما اذا كانت الامور تسير على هذه الشاكلة التي ذكرها بريمر، ويضع صدقيتها محل شكوك كبيرة.
ونحن نعيش هذه الإنجازات والبطولات لساستنا وهم يسطرون تلك الملاحم مع القوات المحتلة سابقا والجارة السعودية وإيران وامريكا ودول أخرى حاليا؛ ليُعرفُوا بأنفسهم تاريخ زعامات او قيادات تعاطت مع المحتل سلباً او ايجاباً! وما زال بعضها يزهو بإنجازاته وكأن الامر يتم خارج المنظور والمرئي والمسموع، في هذه اللحظة تسوقني سذاجتي الى المادة 48 من الدستور العراقي؛ المتعلقة باليمين الدستوري التي أداها كل النواب والوزراء وغيرهم، وامام انظار الشعب العراقي الذي شاهد مراسيم أداء اليمين وكله يقين، بأنهم سيؤدون الامانة التي اوكلها لهم الشعب وسيكونون محافظين على وحدة العراق واستقلاله وسيادته ومصالح شعبه واشهدوا الله على قولهم (والله على ما نقول شهيد)، ونسي هذا الشعب المسكين انهم غالبيتهم ممن تعاونوا مع المحتل ساهموا واوجدوا مسلسل القتل والإرهاب الذي يبدوا انه لم ولن ينتهي لانهم هم من صنعوه ويغذوه.
والاخطر من هذا كله ان العميل أصبح وطني ومناضل من وجهة نظر النظام السياسي الحالي، حتى لو ادخل معه الجيوش والمرتزقة الى بلده للاحتراب على ارضه.
ان امريكا في اعتراف هيئة الامم وبإقرارها نفسها انها دولة احتلال وما يترتب على الاحتلال من قبل الشعب المحتل، المقاومة، وإن أسلحة الدمار الشامل كانت كذبة افتعلتها ادارة بوش، كما لم تثبت الوقائع وكذلك لم يثبت أن للنظام السابق في العراق علاقة مع تنظيم القاعدة، وإن العناصر التي نفذت عملية ضرب المركز التجاري الأمريكي في11/ 9/2001 لم يكن من بين عناصرها التسعة عشر عراقي واحد.
ونتساءل هل كان بريمر أميناً وصادقاً أم انه ادعى الكثير وحاول تضخيم دوره، وقلل من شأن الآخرين، مبدياً عدم جدارتهم واهليتهم من خلال استعدادهم للتعاطي معه ومع الاحتلال دون أي اعتبار مبدئي أو أخلاقي، واما الديمقراطية والحرية الموعودة للشعب العراقي وتسليم الحكم لأبنائه بعد اسقاط النظام السابق فقد تحولت الى فوضى وحرية للقتل والنهب والسلب بل والى ديمقراطية التخاطب بلغة الرصاص الموجهة الى صدور الجميع.
ان الكتل السياسية والأحزاب التي تعاونت مع المحتل لن يرحمها التاريخ عندما سمحت لبريمر ورامسفيلد ان يطبقا في العراق (فلسفة تحقيق الأهداف عن طريق خلق حالة الفوضى) فالحرب مع العراق بدأت منذ عام 1991، تلك الحرب التي واجه العراق فيها (33) جيشاً مسنداً بالقوة الجوية الكونية والتي بدأت بقصف همجي ووحشي طال كل شيء في العراق، وكان نصيب كل مواطن عراقي (200) غرام من المتفجرات نتيجة قصف تمهيدي استمر أكثر من (60000) دقيقة بينما يتطلب العلم العسكري (10) دقائق كمعدل للقصف التمهيدي.
ويقول بريمر: (كانت أهداف أعمال السلب واسعة الانتشار، فقد سويت بالأرض المباني المرتبطة في الجيش، أو بأجهزة استخبارات صدام المتعددة في كل أنحاء البلاد، لم يبق حجر على حجر في بعض الثكنات، ونهبت عشرات من المنشآت التي تملكها الدولة، لا سيما تلك العائدة إلى وزارة الصناعات العسكرية، ولم يتبق منها سوى الجدران العارية، بل نهبت حتى المواسير داخل الجدران!! ) ص 29
تلك مأساة العراق تامروا عليه ابناءه الذين يحملون الجنسية العراقية تعاونوا مع المحتل على تدمير تراث البلد تحت ذريعة الديمقراطية وحقوق الانسان الى ان وصل عدد النازحين والمهجرين الى خمسة ملايين مواطن ناهيك عن تدمير البنية التحتية للعراق الإنسانية والتعليمية والطبية والأمنية؛ وبعد كل هذا الخراب والتدمير والإرهاب، وتقول عضوة مجلس الحكم (رجاء الخزاعي)، بتأكيدها على استعداده للتعاطي مع الاحتلال من دون اعتبار مبدئي وأخلاقي، وهي تقول عن مهمتها اللاحقة ” ساعدت طوال سنوات ثلاثين مضت على توليد آلاف الأمهات العراقيات، وانني أشعر بالفخر اني اساهم اليوم بتوليد امة عراقية جديدة ” .
الشعب العراقي شعب حي وتنبض به الحياة لكنه مسكين وطيب وساذج، وتسهل قيادته بالاعتماد على الموروث الديني المقدس وليس ثمة أقدس من النسب الهاشمي المحمدي الذي استغله ساستنا الأفاضل وبعض المحسوبين على (المرجعيات الدينية سنية وشيعية) واطرته اجتماعيا الدولة العراقية بأبشع صوره في النفوذ والبقاء والتسلط على رقاب الشعب العراقي وصدق من قال (لقد حكمتم البسطاء بسيرة سيد الأوصياء).
وعلى قول أحد الأكاديميين: ان الانسان سيد نفسه واخلاقه ودينه ولا ومقدس سوى الانسان، وأبو بكر البغدادي أيضا يدعي انه هاشمي النسب وانه من نسل نبينا محمد(ص) وهو مؤسس لتنظيم إرهابي وافعاله الاجرامية الإرهابية ماثلة ولا تحتاج الى تعريف، فهل نقبل بما فعله ونمنحه القدسية كونه سيد ومن نسب النبي محمد(ص).
ونسدي للسادة المتعاونين مع المحتل وغيره لتدمير بلدهم واسقاط دولة العراق، نصيحة تتمثل في ان الشيطان لا يمكن ان يكون صادقا عندما يتحدث عن الصلاة والوضوء، فهذه للأتقياء الطاهرين، كما هو الاحتلال الامريكي ورموزه من امريكيين وعملاء فان الحديث عن معتقدات الاديان واسس المجتمع المدني لا تتناسب قطعا في مقام الاحتلال.
واختم مقالتي بما قاله داحي الباب ورجل العدالة، كاشفا عن ذمته اول حكمه، الامام علي (عليه السلام) قائلا:
(يا أهل العراق جئتكم بجلبابي هذا فان خرجت بغيره فاعلموا أني خائن لكم)