في خمسينات وستينات وحتى سبعينات القرن الماضي -وعلى حد مخزون ذاكرتنا طفولة وصبا وشبابا- كان للاعياد طعم ونكهة وقدسية، يتساوى في هذه المشاعر الصغار والكبار الرجال والنساء يحتفل بها الفقراء والاغنياء وان اختلفت الزينة والبهارج وتفاوتت الامكنة والموائد، يحييها ويبتهج بها المسلمون والمسيحيون والصابئة والايزيديون مع اختلاف الازمنة والمناسبات والشعائر والطقوس.
الجميع يستعدون للعيد قبل ايام، ميزانية العيد خاصة.. الفقراء يقترضون ليلبسوا اطفالهم الجديد من الملابس وليضعوا تحت وسائدهم او قرب اسرّتهم هدايا بابا نوئيل، يحذفون جزءا من المصروف اليومي للمنزل كي تعجن ربت البيت “كليجة” العيد بيديها، مراسيم تنظيف البيت خاصة ومكثفة ومركزة.
جدول زيارات الاهل والاقارب والجيران والاصدقاء مزدحم وان بعدت المسافات وشحّت وسائط النقل، يفرغ الكبار ما تبقى في جيوبهم ليقدموه “عيدية” للاطفال.. اولادهم واولاد اقربائهم وجيرانهم اتماما لفرحة العيد في وسائل اللهو البريئة.. وجاءت فترة الثمانينات لتنصب في كل بيت مأتما مفجعا، ولتسدل على كل جدار لافتة سوداء تنعي شهيدا، وتشق في كل قلب جرحا، وتغرس في كل صدر سكينا، وتفتح في كل عين ينبوعا، وتحفر في كل ذاكرة اسما ورسما لأعزة واحبّة وفلذات اكباد حرموا فرحة العيد ونشوته فتحولت فجيعتهم الى حرمان دائم شمل الاباء والامهات ، والاخوة والاخوات ، والبنين والبنات ، والزوجات والخطيبات والحبيبات. اتصلت تداعياتها وفجائعها الكارثية بحقبة التسعينات وختام القرن العشرين. وقبل اندمال الجراح التي استعصت على الشفاء، ومع استبشار الثكالى بنهاية فصول الماساة، وهطول رذاذ يغسل الاحزان، وبصيص امل يكفكف الدموع، وكأن العراقيين على موعد مع الاحزان، وكأن الاشقاء يستكثرون عليهم الامن والاستقرار والامان، اذ قبل ان يتذقوا ثمار الحرية ويتحسسوا نسائمها فتحت عليهم بوابات الجحيم وفوهات البراكين ولكل اسبابه.. ولكل ثأره.. ولكل هدفه. اسدل الستار على فصول مأساة الحروب العبثية والمقابر الجماعية السرية، لينفتح الزمن على فصول جديدة من تراجيديا الحزن العراقي السرمدي ،ادواتها: مفخخات وعبوات، وصورها مقابر جماعية معلنة، ولافتاتها وفلكساتها تنعي الاسماء بالجملة، فصول تلت فصول ،اضاف لها مسوخ القرن الجديد مشاهد ومشاهد… تهجير، تشريد، خطف، اقتحام بيوت العبادة واقدس المقدسات والخوض في دماء مصليها حتى الركب وباساليب لم تخطر على بال البرابرة والوحوش. وهكذا .. تحولت ايام العراقيين الى صوائح تتبعها نوائح، لينسحب الاسى وتنعكس الصورة على الاعياد، فتحولت هي الاخرى الى طقوس تفيض لوعة، وجدول زيارات يطل على المقابر.. “كليجة توزع على ارواح الاحبة الغياب”.
ما كان لي ان اطل على عيد الفطر بهذه الاطلالة المنابرية، واستقبله بهذه المعزوفة الجنائزية، ولكن ما حيلتي ودماء الاحبة مازالت تضمخ خارطة العراق حتى صارت ارجوانية اللون والطعم والرائحة …
ما حيلتي ودماء الشباب الحلوين مازالت تسقي جبهات القتال ،وتزين مقاهي ومطاعم بغداد الحبيبة وارواحهم تترقب المارة والجلاس تسالهم عن هلال العيد؟!.
عيد سعيد للبرلمانيين والمسؤولين الذين تركوا شعبهم بفواجعه وراحوا يقضون العيد جذلين مع عوائلهم المترفة في بلدان اوربا.