منذ البداية كنا ندرك ان القضاء على داعش ممنوع بقرار امريكي، وان تمدد داعش نحو بغداد أو اربيل ممنوع أيضا بموجب ذات القرار. وفي آذار الماضي، وبعد عدة عمليات للتنظيم خارج دائرة الشيطان، لاحت في الأفق امكانية إزاحة التنظيم من الأرض العراقية التي تلقفها صانع القرار العراقي بايحاء من واشنطن او بمحض الصدفة.. لا فرق، حينها شرع الجيش العراقي بدعم مقاتلي الحشد الشعبي بشن هجوم على عدة محاور في محافظة صلاح الدين تمكن خلال زمن قياسي ان يحقق فيها انتصارات كبيرة طهرت الأرض من تواجد التنظيم الأكثر وحشية في التاريخ، لكن الايحاء ذاته ومن واشنطن ذاتها جمد تلك الانتصارات عند تخوم الموصل والانبار.
لم تكن ثمة مصادفة هنا، بل كانت صحوة الشيطان الذي رقص على ايقاع الطائفية الاقليمية، رافعا صورة قاسم سليماني على قرنيه وهو يجتاح الغرف المغلقة في واشنطن. لم تكن ثمة رؤية عراقية للتعامل مع التجاذب الاقليمي بين ايران وتركيا والسعودية، وكانت الشعارات التي تتغنى بوحدة القضية تذكر بايقاعات الرقص على ايقاع العصور الحجرية، وتشجع الأفاعي ان تخرج متلمظة بلسانها من تحت القش الطائفي المشتعل، لتتقيأ قيحها على شكل “الهلال الشيعي” أو “التمدد الايراني”، وكأنها لم تسمع يوما بان الفراغ الاستراتيجي يملؤه الطرف الأقوى والأذكى.
أمس، زف الرئيس الأمريكي باراك أوباما بشرى للعراقيين وللعرب مفادها ان المعارك مع داعش ستمتد لزمن طويل، بالمقابل، وكأي قرصان، بشر أوباما الأمريكيين بأن خطر نيران الحروب والعمليات الإرهابية أصبح بعيدا عن سفينة العم سام. تلك المعادلة التي مطلوب منا ان نهضمها على عجل، تتلخص في ان استمرار الحرائق في منطقتنا كفيل بجذب التنظيمات الإرهابية الى دائرة النيران، وكفيل أيضا بابعاد تلك التنظيمات عن الولايات المتحدة وأوربا، لكن أوباما الذي بدا أمس كبهلوان بائس تجاوز المعقول حين قال ان عدد الطلعات الجوية الأمريكية في ساحات المعارك بلغ خمسة آلاف طلعة، فلو قيض لكل طلعة جوية من تلك الطلعات ان تقتل خمسة افراد فقط من مقاتلي داعش، لكانت قد قضت على معظم مقاتلي التنظيم، أما اذا كان عدد الطلعات يشمل طلعات التجسس والطلعات التي وجهت صواريخها الى العراقيين عن طريق الخطأ، فدعوني اتفق مع السيد اوباما، لأن أخطاء الطيران الأمريكي كانت أهم الدروس التي تعلمها طيارونا بحيث صاروا يلقون بحمم نيرانهم على البيوت
الآمنة، كما حصل قبل يومين في منطقة النعيرية ببغداد، في حادثة لم يعرف لها تاريخ الطيران العراقي مثيلا.
أمس أيضا، قرأنا بيان القيادة العامة للقوات المسلحة حول احالة رئيس اركان الجيش بابكر زيباري على التقاعد، وزيباري الذي شغل هذا المنصب العسكري الخطير منذ تشكيل الجيش العراقي في مرحلة ما بعد الاحتلال، لم يكن سوى “حديدة من الطنطل”، فعلى الرغم من أن هذا المنصب، من الناحية العسكرية، أهم بكثير من منصب وزير الدفاع الذي يعد منصبا شرفيا من الممكن أن تشغله شخصية سياسية مدنية، فإن زيباري بقي بمنأى عن أية محاسبة أو مساءلة رغم الاخفاقات التي شهدتها المؤسسة العسكرية وبمقدمتها هزيمة الموصل، ورغم شبهات الفساد التي شملت معظم من شغلوا حقيبة وزارة الدفاع وكبار الضباط فيها.
هنا ندرك أيضا ان زيباري شغل منصبه وفقا للمحاصصة البغيضة، وانه ينتمي الى البيشمركة ويسعى لزيادة تدريبها وتسليحها دون ان يبدي أي اهتمام بالجيش العراقي، لكن ما لم نعلمه حتى الآن ان كان السيد العبادي سيخضع مجددا لاستحقاقات تلك المحاصصة ويوافق على ان يشغل منصب رئاسة أركان الجيش، وفي هذا الوقت العصيب، “حديدة” أخرى لا تقدم ولكنها قد تؤخر كثيرا.
إنها لعبة زبانية الشيطان التي إن لم نتمكن من ايقافها، فان سباحتنا في برك الدم ستطول وعومنا على شواطئ الفساد والفشل سيطول أيضا.