15 نوفمبر، 2024 12:03 م
Search
Close this search box.

في الذكرى الاولى لرحيله

في الذكرى الاولى لرحيله

تعليق الومضة .. زيارة سرية لمشغل حسين عبد اللطيف الشعري (*)
يفتقد المشهد الشعري بوجه خاص والثقافي بوجه عام حضور الشاعر الصديق حسين عبد اللطيف ، شاعر الإلفة والغرابة ، شاعر الاصدقاء الذي رحل في حي ( الاصدقاء ) بضواحي البصرة . مثلما يفتقد لمساته وخربشاته ، حسه النثري بعد الشعري ، صمته ، تمرده وصرخاته وايماءاته . وما يسعنا ــ كأضعف الايام ــ الا استذكار حضوره المفتقد بضراوة ودوره في بلورة وتجسيد عدد من الظواهر الشعرية التي تسم القصيدة الحديثة ، لا في البصرة بل ضمن المشهد الشعري العربي بشكل عام . والسطور التالية قراءة انطباعية لمفردات اسلوب الراحل الشعري ارتأينا نشرها من باب اضعف الايمان ليس الا ..

* يورد غريغوري جوزدانيس اربعة جوانب تميز ما يمكن ان يطلق عليه بـ ( الالهام )او ( الومضة الشعرية ) عن مجمل التجربة الادراكية العادية . هذه الجوانب تتلخص في :

أـ انه مباغت ويأتي دون بذل جهد ودون تمهيد

ب ـ انه لا إرادي اي انه آلي

ج ـ يشعر كاتب النص باستثارة وسرور في اثناء حياته .

د ـ يبدو النص غير مألوف للشاعر ، وكأنه لم يؤلف من قبل :

“لم يعد يتناسل الا السر

لم يعد يخضر الا الخريف

لم يعد يستغلق الا البرهان

لم يعد يتنمر الا الذهب “

( من ديوان لم يعد يجدي النظر )

التعليق .. كيف ولماذا ؟

يعمد شاعر من معدن حسين عبد اللطيف الى تعليق جانب من نصه الشعري لكونه ، في المقام الاول معنيا بالغياب قبل احتفائه بالحضور :

“في بلدة آمالي

لا توجد

اطلاقا

شجرة “

(هكذا دائما )

كما يوفر الشاعر لقصيدته جوا غرائبيا يتماهى عبره مع غرائبية الواقع نفسه :

” كانت الى الجيرانيوم أقرب

وكانت للّبلاب ــ حبل الفقراء ــ اقرب “

( في عداد الذكرى )

يعمل الشاعر على تسكين بروقه ورعوده ، كما يفعل لاعب للكرة من اجل نص متعدد الاشعاعات حيث الجوهري يسبق اليومي والجمعي يميل باتجاه العام . ان شعر حسين عبد اللطيف شأنه شأن اشعار الهايكو والابونشياد والنرفانا زاخر بالحكمة ومرارة التجارب واللمسة الخفية للاشياء ، بأوقات منسلة كاللصوص ، بأكاسير سعادة مختلسة . نعتقد شخصيا ان حلاوة البحر المريرة او مرارة البحر المحلاة تشكلان واحدا من اعمدة شعر حسين عبد اللطيف .

من خلال تجسيد المعنى ـ الدلالة الذي يعد السمة الكبرى لمنجز حسين الشعري في معظمه ، عدا بعض الاستثناءات ، دأب الراحل على تعليق لحظته الشعرية بالطريقة نفسها التي يضيف آجرة تلو آجرة الى هيكل القصيدة . فالنص لديه يلملم اشلاءه ويعقص على صرة شظاياه ساكبا خلاصاته : وحدة العمل ، الذائقة والعطر اللامتبدد في قوالب تتمرد على نفسها . ان شاعرا يعي خطورة المفردة ، كحسين عبد اللطيف يدرك تماما خطورة الشعر حيث الكتابة لا تنجز تحت ظلال الزيزفون بل تحت ظلال المقصلة . لقد جعل ابن المقفع كتابه الذائع الصيت ( كليلة ودمنة )

على السن اليهائم والطير ” صيانة لغرضه فيه عن العوام وضنا بما ضمنه عن الطغام ونزيها للحكمة وفنونها ومحاسنها ” . ومع ذلك دفع حياته ثمنا لاستحقاقات سياسية وها هو حسين عبد اللطيف يقول :

” اقول : يا نفسي

ــ اخيفها من سطوة الابريق والكرسي ــ

اياك ِ يانفسي .. ان تجلسي .. يا نفسي

اراه مثقوبا هو الكرسي

لكنها نفسي

جريا على عادتها تعزو

رداءة الحال

الى

الطقس ِ ” ( قناع )

ويعلق الشاعر لحظته الشعرية كي يوفر نصا هو اقرب للتكامل منه الى التسرع والابتسار والتفسير الاحادي المسطح . وهو يؤجل اتمام قصيدته بحثا عن نص يحقق تناغما ايقاعيا موسيقيا له تأثيره الجوهري على طقس النص وصلته بالثيمة المركزية ، من جهة ، وبالثيمات المتحلقة حول بؤرة المركز :

” قطار الحمولة

قطار الليالي

قطار السنين الخوالي

الى اين تمضي بركابك الميتين ؟ “

( قطار الحمولة )

ظل تعليق الومضة الشعرية علامة بارزة من علامات شعر حسين عبد اللطيف

، تجلى عبر نصوصه الشعرية المبكرة التي نشر قسما كبيرا منها في ديوانه الاول ( على الطرقات ارقب المارة ) حيث الهيمنة للمفردة الشعرية الحافلة بالاشعاع ، وهي المرحلة التي عكست تأثره بالاساليب الشعرية التي اقترنت بجهود شعراء

مجلة ( شعر ) و (حوار ) ( مواقف ) والتيارات التي حمل رايتها بيان عام 69 الشعري ، ومن ثم انتقاله الى مرحلة تجلى فيها مزيد من العناية بالحالة الشعرية دون التفريط بالدور الاشعاعي العلائقي للمفردة الشعرية :

” البحر .. جرح يصيح

مرتجف الأعضاء .. كالاغصان

البحر ظل شاحب “

من ديوان ( لم يعد يجدي النظر )

من هنا نستخلص ان شعر الراحل كان ابعد ما يكون عن شعر المناسبات والمنبريات الماطرة من سحب الالهام ، فكل مفردة يجري انتقائها بعناية فائقة خدمة للحالة الشعرية . كان حسين سيزيفا آخر نقش في صعوده كلمات نصوصه الشعرية على أظافره مستعينا بضوء كائن متناه في الصغر اسمه القطرب .

——————————————————–

اشارة

——

(*) النص الأصلي للقراءة النقدية ورد في جريدة ( الاديب ) الاسبوعية الثقافية

العدد (103) كانون الثاني 2006مع بعض التصرف في حجم المادة المرسلة (م)

أحدث المقالات

أحدث المقالات