تعليق الومضة .. زيارة سرية لمشغل حسين عبد اللطيف الشعري (*)
يفتقد المشهد الشعري بوجه خاص والثقافي بوجه عام حضور الشاعر الصديق حسين عبد اللطيف ، شاعر الإلفة والغرابة ، شاعر الاصدقاء الذي رحل في حي ( الاصدقاء ) بضواحي البصرة . مثلما يفتقد لمساته وخربشاته ، حسه النثري بعد الشعري ، صمته ، تمرده وصرخاته وايماءاته . وما يسعنا ــ كأضعف الايام ــ الا استذكار حضوره المفتقد بضراوة ودوره في بلورة وتجسيد عدد من الظواهر الشعرية التي تسم القصيدة الحديثة ، لا في البصرة بل ضمن المشهد الشعري العربي بشكل عام . والسطور التالية قراءة انطباعية لمفردات اسلوب الراحل الشعري ارتأينا نشرها من باب اضعف الايمان ليس الا ..
* يورد غريغوري جوزدانيس اربعة جوانب تميز ما يمكن ان يطلق عليه بـ ( الالهام )او ( الومضة الشعرية ) عن مجمل التجربة الادراكية العادية . هذه الجوانب تتلخص في :
أـ انه مباغت ويأتي دون بذل جهد ودون تمهيد
ب ـ انه لا إرادي اي انه آلي
ج ـ يشعر كاتب النص باستثارة وسرور في اثناء حياته .
د ـ يبدو النص غير مألوف للشاعر ، وكأنه لم يؤلف من قبل :
“لم يعد يتناسل الا السر
لم يعد يخضر الا الخريف
لم يعد يستغلق الا البرهان
لم يعد يتنمر الا الذهب “
( من ديوان لم يعد يجدي النظر )
التعليق .. كيف ولماذا ؟
يعمد شاعر من معدن حسين عبد اللطيف الى تعليق جانب من نصه الشعري لكونه ، في المقام الاول معنيا بالغياب قبل احتفائه بالحضور :
“في بلدة آمالي
لا توجد
اطلاقا
شجرة “
(هكذا دائما )
كما يوفر الشاعر لقصيدته جوا غرائبيا يتماهى عبره مع غرائبية الواقع نفسه :
” كانت الى الجيرانيوم أقرب
وكانت للّبلاب ــ حبل الفقراء ــ اقرب “
( في عداد الذكرى )
يعمل الشاعر على تسكين بروقه ورعوده ، كما يفعل لاعب للكرة من اجل نص متعدد الاشعاعات حيث الجوهري يسبق اليومي والجمعي يميل باتجاه العام . ان شعر حسين عبد اللطيف شأنه شأن اشعار الهايكو والابونشياد والنرفانا زاخر بالحكمة ومرارة التجارب واللمسة الخفية للاشياء ، بأوقات منسلة كاللصوص ، بأكاسير سعادة مختلسة . نعتقد شخصيا ان حلاوة البحر المريرة او مرارة البحر المحلاة تشكلان واحدا من اعمدة شعر حسين عبد اللطيف .
من خلال تجسيد المعنى ـ الدلالة الذي يعد السمة الكبرى لمنجز حسين الشعري في معظمه ، عدا بعض الاستثناءات ، دأب الراحل على تعليق لحظته الشعرية بالطريقة نفسها التي يضيف آجرة تلو آجرة الى هيكل القصيدة . فالنص لديه يلملم اشلاءه ويعقص على صرة شظاياه ساكبا خلاصاته : وحدة العمل ، الذائقة والعطر اللامتبدد في قوالب تتمرد على نفسها . ان شاعرا يعي خطورة المفردة ، كحسين عبد اللطيف يدرك تماما خطورة الشعر حيث الكتابة لا تنجز تحت ظلال الزيزفون بل تحت ظلال المقصلة . لقد جعل ابن المقفع كتابه الذائع الصيت ( كليلة ودمنة )
على السن اليهائم والطير ” صيانة لغرضه فيه عن العوام وضنا بما ضمنه عن الطغام ونزيها للحكمة وفنونها ومحاسنها ” . ومع ذلك دفع حياته ثمنا لاستحقاقات سياسية وها هو حسين عبد اللطيف يقول :
” اقول : يا نفسي
ــ اخيفها من سطوة الابريق والكرسي ــ
اياك ِ يانفسي .. ان تجلسي .. يا نفسي
اراه مثقوبا هو الكرسي
لكنها نفسي
جريا على عادتها تعزو
رداءة الحال
الى
الطقس ِ ” ( قناع )
ويعلق الشاعر لحظته الشعرية كي يوفر نصا هو اقرب للتكامل منه الى التسرع والابتسار والتفسير الاحادي المسطح . وهو يؤجل اتمام قصيدته بحثا عن نص يحقق تناغما ايقاعيا موسيقيا له تأثيره الجوهري على طقس النص وصلته بالثيمة المركزية ، من جهة ، وبالثيمات المتحلقة حول بؤرة المركز :
” قطار الحمولة
قطار الليالي
قطار السنين الخوالي
الى اين تمضي بركابك الميتين ؟ “
( قطار الحمولة )
ظل تعليق الومضة الشعرية علامة بارزة من علامات شعر حسين عبد اللطيف
، تجلى عبر نصوصه الشعرية المبكرة التي نشر قسما كبيرا منها في ديوانه الاول ( على الطرقات ارقب المارة ) حيث الهيمنة للمفردة الشعرية الحافلة بالاشعاع ، وهي المرحلة التي عكست تأثره بالاساليب الشعرية التي اقترنت بجهود شعراء
مجلة ( شعر ) و (حوار ) ( مواقف ) والتيارات التي حمل رايتها بيان عام 69 الشعري ، ومن ثم انتقاله الى مرحلة تجلى فيها مزيد من العناية بالحالة الشعرية دون التفريط بالدور الاشعاعي العلائقي للمفردة الشعرية :
” البحر .. جرح يصيح
مرتجف الأعضاء .. كالاغصان
البحر ظل شاحب “
من ديوان ( لم يعد يجدي النظر )
من هنا نستخلص ان شعر الراحل كان ابعد ما يكون عن شعر المناسبات والمنبريات الماطرة من سحب الالهام ، فكل مفردة يجري انتقائها بعناية فائقة خدمة للحالة الشعرية . كان حسين سيزيفا آخر نقش في صعوده كلمات نصوصه الشعرية على أظافره مستعينا بضوء كائن متناه في الصغر اسمه القطرب .
——————————————————–
اشارة
——
(*) النص الأصلي للقراءة النقدية ورد في جريدة ( الاديب ) الاسبوعية الثقافية
العدد (103) كانون الثاني 2006مع بعض التصرف في حجم المادة المرسلة (م)