لكل جماعة انسانية، قومية كانت ام دينية، قيمها العليا التي تعبر من خلالها عن حضورها الخاص في التاريخ، وهذه القيم ليست مفاهيم ثابتة لا تمتلك المرونة نحو التغيير بل هي قيم حيوية ذات فاعلية في قدرتها نحو خلق الحراك الاجتماعي وتوجيه الافراد والجماعات باتجاه معين تقصده.
ومن هنا تكون الشخصية التي لها القدرة على قيادة الجماعة والمعبرة عن هويتهم، رمزاً يؤشر تحولها الى عنصر ايديولوجي مهم في تحديد تلك الجماعة، ولخلق الفواصل بينها وبين الجماعات الاخرى في مجتمعها الاوسع.
وكل جماعة سياسية او عرقية او دينية او حتى طبقية تتخذ لنفسها رمزاً بشرياً مثلما تأخذ لها شعاراً يشير الى شخصيتها المتميزة في حالة قراءة ذلك الشعار. وفي التاريخ البشري نماذج عديدة لشخصيات تصل دلالاتها حد الرمز المعبر عن حضور خاص لجماعة ما في التاريخ.
فهنالك شخصيات دينية لها حضور دائم عند الجماعة التي تنتمي اليها تلك الشخصية والتي ترى في تلك الشخصيات حضورها في التاريخ.
ويجدر بنا ان نشير الى ان بعض الجماعات قد تتبنى صورة رمز في حاضرها، كصورة البطل القومي في عصرنا الحالي مثلما قد تتبنى رمزاً في ماضيها ترى له الحضور المعنوي في حاضرها، كون خصائص تلك الشخصية او افكاره ومسيرته تنفق مع حاضر تلك الجماعة.
ان الكتابة عن القادة بصورة عامة، أمر كبير الاهمية، اذ يختص بنوعية من الرجال تمتلك القدرة على التأثير في مستقبل اوطانهم وشعوبهم. فلا يمكن للمرء ان يتصور وجود مجتمع بشري في اي زمان او مكان دون وجود القائد. لان القائد هو اساس المجتمع، فلا يمكن ان نتصور مجتمعاً بدون قائد او قائداً بدون مجتمع. فالقيادة أمر لا مناص منه لتنظيم الحياة ولتحقيق مبدأ العدل والمساواة في المجتمع وللدفاع عنه وعن منجزاته ضد الاخطار التي تهدده.
وعلى هذا الاساس، حددت قيادة القائد الرمز/ الكارزما، بانها عملية تأثير متبادل لتوجيه النشاط الانساني في سبيل تحقيق هدف مشترك او هي المقدرة على توجيه سلوك جماعة في موقف معين لتحقيقه. لذا تقوم القيادة بدور هام في التطور والتقدم نحو تحقيق الهدف.
ولا شك، في ان اي عمل ناجح يرجع الفضل الاول في نجاحه الى قيادته الناجحة الواعية الموفقة التي توجهه وتصحح مساره اذا ضل الطريق الصحيح، كما ان القيادة المحنكة تعد افرادها الاعداد الملائم وتجعلهم مؤهلين قبل الاقدام الى تحقيق الهدف.
ولعل ذلك – وتأسيساً على ما تقدم- يقودنا الى السؤال:
* هل يمكن لعصرنا ان ينجب القادة الرمز/ الكارزما؟
أبقى في عصر الشعوب والجماهير او عصر التقنيات الرقمية والاعلام العابر للاجواء، مكان لاولئك الافراد العظام الذين طالما تعلقت بهم ابصار الانسانية وانجذبت نحوهم الجماعات البشرية بدوافع قوية قاهرة وغير منظورة؟
أما زال هذا العصر قادراً على ان يقدم تلك النماذج الانسانية العليا التي توحد في تفكيرها وارادتها وسلوكها، الواقع والحلم، الحقيقة والاسطورة؟
ولكن، من هو القائد الرمز/ الكارزما؟
أليس هو ذلك التجسيد الحق لاحلام وآمال ومطامح أمة من الامم؟
أليس هو ذلك الذي يملك قدرة على قهر النفس والتضحية بها، ايثاراً للمبدأ الاعلى؟
أليس هو ذلك الذي يملك من الوعي بالتاريخ، والاستبصار بالمستقبل، والحساسية لالتقاط لحظات التحول الكبرى، ما يتيح له الكفاءة والمقدرة على قيادة البشر نحو اهدافهم، عبر الدروب الشائكة، والمنعطفات الصعبة؟ وكيف يمكن للحياة ان تتقدم، وللمجتمعات ان تتطور، من غير اولئك القادة؟
هكذا كان لكل عصر قادته في الماضي ، كانت الحياة بالنسبة لاولئك القادة مجرد مغامرة فردية يدفعون بها الى اقصى درجات الخطر امام متفرجين مبهوري الانفاس، سلبيين في معظم الاحيان، لا يملكون سوى عاطفة الاعجاب المطلق، ولا يستطيعون في النهاية الا التصفيق والتمجيد واقامة التماثيل وروي القصص والاساطير.
كان المجتمع حينذاك منقسماً بشكل بالغ الحدة والوضوح الى –انا وآخرين- (انا) يقود ويحكم ويسيطر ويهيمن ويتسلط، و (آخرون) يقادون، ويخضعون، ويتبعون، ويستلمون، وكأنهم منتمون او مسحورون لا يملكون من الوعي او الارادة شيئاً.
ولقد ظل هذا الماضي ممتداً في الزمن حتى استيقظت تلك الكتل السديمية على أثر الثورات والحروب الكبرى، وتفتح وعيها بالفكر والممارسة وتراكم الخبرة. واصبحت تسمى في عصرنا بالشعوب او الجماهير، وغدت العلاقة بينها وبين قادتها- في اطارها الصحي الصحيح- ليست علاقة قهر وتبعية، سيطرة وخضوع، وانما علاقة جدلية يتكامل فيها الفرد والمجموع، القائد والجماهير، الشعب والبطل.ولم يعد الموت اوالشهادة هو العلامة الاساسية الوحيدة التي تضع اسطورة القائد البطل.
ولم يعد الموت وحده صكاً بالغفران يحول بين نقاد الفكر والسياسة وتناول حياة القادة بالتحليل واصدار الاحكام.
ان اللجوء الى التاريخ في تفسير الاحداث السياسية والاجتماعية والوقوف عند مكوناتها، وتحليل اسبابها ونتائجها، ودراسة الشخصيات التي صنعت تلك الاحداث.. امر له ما يسوغه من الناحية الاعتبارية. فالتاريخ هو المعيار الاعتباري الاساس في تقويم الظاهرة الانسانية والحكم عليها. ولأن التقويم التاريخي ليس تقويماً آنياً مبنياً على استجابة سريعة او رد فعل آني تجاه حدث اجتماعي انساني تكون في ظل ظروف اجتماعية وسياسية
وتاريخية معينة فحسب بل هو تراكم مادي كبير للخبرات والتجارب الانسانية الذي استدعي لتقويم تجربة انسانية ما.
واذا كانت قوانين الحياة الانسانية قد اوجبت وجود قوى ديناميكية فاعلة تحرك الوسط الانساني وتقوده نحو النماء والتجدد والابداع، استمراراً لحياة الانسان وديمومة العنصر البشري، فالعناصر التي قادت هذه الحياة لم تلد من رحم الاحداث الاجتماعية الخالدة او التكوينات السياسية والاجتماعية الكبيرة فحسب وانما بزغت من اعماق التاريخ الانساني بكل تراثه وثقله الاعتباري. فالعناصر التي تركت بصماتها على مسيرة الايام لم تظهر بصورة عفوية ولم تحملها المتغيرات الى صدارة الاحداث بل كانت عصارة تجارب انسانية فكرية واجتماعية، ابرزها للوجود، الوعي المتقدم لدور التاريخ في حياة البشر، فأكتشفت الشعوب رموزها التاريخية ووقفت عند المحطات التاريخية في مسيرة بني الانسان لتتزود منها ما يعينها على فهم واستيعاب واقعها اليومي واستشراف مستقبلها.
فاذا كان الانسان يصنع نفسه كما يختار، فأن القائد يصنع شعبه ويصنع الحياة لهذا الشعب، كما يؤمن ويعتقد من خلال غرس وتنمية معتقدات مشتركة لدى المجتمع وقيماً تعطي للشعب احساساً بالتضامن الاجتماعي وتشعرهم بقيم هذا التضامن وتساعدهم على تكوين ذاتهم السياسية والاجتماعية كأساس للعضوية في المجتمع الام، ومن ثم في المجتمع الدولي ومحيطهم الاقليمي.
من هنا، عرفت القيادة بأنها “القدرة التي يمتلكها احدهم في التأثير في افكار الآخرين واتجاهاتهم وسلوكهم. وهذا يعني، ان اي انسان قادر على التأثير في الاخرين وتوجيههم نحو هدف مشترك، فانه يقوم بمهمته كقائد”.
بمعنى آخر اكثر شمولية –انه القادر على توحيد جماهيره حول هدف او قضية، ومن ثم القدرة على تنظيم وتحريك هذه الجماهير بما يحرك طاقاتها النضالية من اجل تحقيق النصر للهدف الذي يمثل الانتصار لها في تحقيق مصالحها وآمالها المستقبلية.
فالقائد، هو الذي يحافظ على وحدة جماهيره واستمرارية عطائها من خلال كونه قدوة في القول والممارسة، واذا كانت وحدة الجماهير تفرض بداهة ان تكون القضية هي قضيته فأن القائد الناجح لا بد من ان يكون في قوله وعمله قدوة واضحة تقنع الجماهير بأن مسيرته متطابقة مع قضيتها.
والقائد من وجهة نظرنا: الانسان الذي يحتل ضمن القيادة الجماعية ثقلاً خاصاً، ويحتل ضمن المرحلة مكانة تاريخية، وتكون اعماله اعمالاً ذات صدى وتأثير تاريخي لا ينحصر في اثاره الايجابية بمرحلة زمنية قصيرة وانما يمتد بتأثيره الفعال الى ما بعد غياب القائد التاريخي عن الحياة، وتكون مرحلة بارزة في السجل التاريخي للأمم والشعوب، وتؤدي دوراً حاسماً في تغيير حياة الشعب من حالة الى اخرى، ونقله من مرحلة الى اخرى متقدمة.
ولئن كانت نظرتنا قد ركزت على نقاط معينة في تعريفها هذا، كونها اساساً للاختيار الصحيح للقائد، فان مجرد صياغتها في اطرها الدقيقة وعلى نحو الذي ذكرناه… يكشف عن طبيعة الوعي الشمولي الذي يجب ان
يمتلكه القائد والحصيلة الواسعة من المعرفة والتجربة النضالية التي يتوفر عليها والقدرة الفائقة على تحويل ذلك كله الى برامج عمل قابلة للتطبيق والسير في الطريق القويم.
من هنا نرى، الصعوبة في تحديد معنى دقيق لكلمة القائد الرمز (الكارزما) في السياسة وانظمة الحكم. والشخصية القيادية (الكارزما/ Charisma) وتعني في اللغة الاغريقية (الرحمة الالهية)، بمعنى قابلية الشخص على القيادة والالهام بفضل قوة شخصيته وعبقريته وعقيدته. فعندما تمر المجتمعات بأزمات عنيفة تؤدي الى انهيار القيم والقواعد السائدة والمنظمة له، تظهر قيادات من نوع جديد تقود المجتمع، وتعتبر هذه القيادات ملهمة لانها لا تتقيد بما هو سائد انما تستوحي مسيرة التاريخ بوعي مكثف وارادة قويمة تستوحي من خلاله التغيير واعادة تطوير النظام القائم او بناءه من جديد.
ان القادة الكبار الذين يمتلكون المواصفات والمؤهلات التي تميزهم عن الآخرين من ابناء امتهم، هم الذين يصنعون التاريخ ويحددون اتجاهاته ويتحكمون بالاحداث التي تمر بشعوبهم، ويوجهونها الوجهة التي تحدد ملامح مراحل طويلة من مسيرتها الحضارية، بل لا نبالغ اذا قلنا يحددون مصائرهم وادوارها الحضارية في المسيرة الانسانية. فالفضل يعود للقادة في نهوض اممهم ويقظتها وحجم الدور التاريخي الذي يمكن ان تؤديه هذه الامة او تلك. فان تأثير القادة وبروز ادوارهم متناسب طردياً مع حجم التحديات والمشاكل والصعاب وتعقيدات المراحل التي تمر بها اممهم، فكلما كانت التحديات كبيرة وخطيرة والمشاكل تزداد تعقيداً تطلب ذلك قادة من طراز خاص ممن يحملون مؤهلات خاصة. وهذا يجعل بروزهم وتميز ادوارهم اكثر تجلياً وبروزاً. فاذا تأملنا القادة الكبار منذ فجر التاريخ البشري حتى اليوم نجد انهم تحديداً اولئك الذين احدثوا انعطافاً نوعياً في مسار التاريخ العام لشعوبهم اولاً وللانسانية ثانياً.
فالقادة الذين هم من طراز خاص، هم اولئك الذين تفرزهم الظروف التاريخية عبر ظروف وطنية وقومية وانسانية محرجة وعبر معاناة صعبة. فالتاريخ لا يفرز مثل هذا النوع من القادة الا في حالات الضرورة القصوى، والشعوب كذلك، لا تفرز هذا النوع من القادة الا عندما تصل في وضعها العام من جهة وفي آمالها وتطلعاتها من جهة ثانية الى الحالة التي لا بد ان تجد الرمز الذي يجسد معاناتها ويتمثل آمالها وتطلعاتها…مثل هذا القائد هو ما نطلق عليه القائد الرمز او القائد التاريخي او القائد الكارزما، اي القائد الذي اجتمعت فيه بصيغة التفاعل خصائص القائد العسكري والفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي… بابعادها الشخصية والوطنية والانسانية. بمعنى – قابليته على القيادة والالهام بفضل قوة شخصيته وعبقريته وعقيدته.. فعندما تمر المجتمعات بازمات عنيفة تؤدي الى انهيار القيم والقواعد السائدة والمنظمة له، تظهر قيادة من نوع جديد تقود المجتمع وتعتبر هذه القيادة ملهمة لانها لا تتقيد بما هو سائد، انما تستوحي مسيرة التاريخ بوعي مكثف وارادة قوية تستوحي من خلاله التغيير واعادة تطوير النظام القائم او بناءه من جديد.
ان الاساس الذي تقوم عليه سلطة القائد، هي مزايا تفوق الشخصية لدى القائد او هكذا ينظر اليه اتباعه ومريده. فالقائد الملهم يكون بؤرة الاستقطاب الشعبي للمصداقية التي يتمتع بها والثقة بشخصه، وطيبته، وربما
لبطولات حفلت مسيرته بها. فالزعيم الديني او المذهبي او القومي مثلاً هو الشخص الذي يتمتع بجميع الصفات القيادية طالما ان مركزه القيادي هذا لا يعتمد على ثروته او جبروته او جهازه القانوني. فعادة لا يعتمد القائد على جهاز منظم يساعده في الحكم، حيث ان تأثيره وقوته لا تستمد من النظم القانونية والشرعية بقدر ما تستمد من قابليته على كسب وارضاء الناس والتفاهم حوله.
لقد اختلف المفكرون حول وجود القائد الذي يمتلك المواصفات والمؤهلات القيادية التي ترفعه الى مستوى المرحلة التي تمر بها أمته والقادر على التقاط اللحظات المصيرية واستثمارها استثماراً وردياً، وبما يجعله قادراً على تجسيد طموحات امته وتطلعاتها وتحقيقها، فهناك من يقول – ان المراحل المصيرية التي تمر بها الشعوب هي التي تصنع القادة. وهناك من يقول ان القادة هم الذين يصنعون الاحداث وبالتالي يكتبون تاريخ اممهم وشعوبهم.
من هنا، حاول كبار الفلاسفة والمفكرون على طوال حقب التاريخ تفسير وجود رجال عظام يقودون الحياة ويصنعونها. وقد اجمعت الدراسات ان لم نقل معظمها على وجود مجموعة من المميزات الانسانية يقف على رأسها وفي مقدمتها العقل الذي يقود ويوجه هذه المميزات.
فالفيلسوف هيغل يقول “ان العقل يحكم العالم، وان التاريخ الشامل تبعاً لذلك شيء عقلي”. ويرجع الفيلسوف ديكارت سبب وجود قادة تاريخيين الى القدرات العقلية، حيث نبه الى وجود قدرتين اساسيتين بالعقل الانساني، قدرة تميز الخطأ عن الصواب وهي متساوية او موجودة لدى جميع الناس بل ان هذه القدرة توهب لقلة منهم ليبدعوا ويكتشفوا.
ان الاسناد على العقل في تفسير الذات المبدعة أمر له ما يسوغه من الناحية السلوكية، ومن الناحية الاجتماعية ايضاً. لأن الانسان له ذات مفكرة قبل ان يكون اي شيء، كما انه وجود اجتماعي ونفسي ترك اثاراً خالدة في مجرى التاريخ.
العقل اذن- نستنتج- له دور رئيس في تكوين الشخصية القيادية، فاذا ما اضفنا اليه ظواهر الايمان العادل والعمل الدؤوب والتحرك بأفق يتجاوز الحياة المتداولة، اصبح القائد ممسكاً بالاحداث ومسيراً لها من خلال تناسق فكري وعملي دقيق.
ان حقائق التاريخ تثبت بما لا يقبل الشك، في ان استحضار الارادة والقدرة على اتخاذ القرار الحاسم، هي السمة التي تميز القائد عن غيره، لأن القرار العظيم يكشف عن امكانية القائد وقدرته في نقل الافكار العظيمة من سماء النظريات الى حيز التطبيق العملي على ارض الواقع المعاش.
ولأن هذا النقل ليس بالامر الهين بل هو مخاض انساني عسير يتطلب استحضار الارادة بكل عنفوانها وشموخها في مواجهة تحدي استثنائي ذو قوانين رتيبة وظروف محسوبة وغير محسوبة، تلك هي التي ترافق ذلك المخاض، اضافة الى كيفية مواجهة تجذر القوانين السياسية والاجتماعية البالية في التفكير الجمعي.
نرى –بناء على ذلك- ان القرارات العظيمة تكتسب اهميتها وعمقها وشموليتها عندما يتخذها القادة على مدى التاريخ لاقترانها الوقائع واحداث اجتماعية وسياسية صعبة ومعقدة ذات صلة بالانسان وحياته.
ولأن صنع القرار العظيم يتم في العقول القيادية الكبيرة، فأنه لا يتجاوز تلك الظروف السياسية والاجتماعية والنفسية وانما يدرسها بعمق عبر ملكة ذهنية معقدة تجري داخل عقل الانسان القائد التي تتجاوز الحدود الوظيفية للعقل الى الحدود الانسانية الاوسع التي تجعل من العقل جزءاً من العملية لا كلها.
وعليه، نلاحظ ان القرارات العظيمة لا يصنعها الا رجال من نوع خاص يمتلكون عقليات خاصة وجرأة خاصة، لان القرارات وبخاصة المصيرية منها لا تولد ولادة اعتيادية.
فالقرارات ليست رغبة آنية يلجأ اليها القائد لمواجهة حالة ما، لأن جميع الحالات محسوبة في تفكير القائد في اطار علم الحساب السياسي وانما القرار هو تصور نظري ومبدئي واستراتيجي مقروناً بتكتيك ناجح وباجراءات واعية يعتمد الامكانات الذهنية والمادية ومواجهة واعية لكل الافرازات التي تنتج عن هذه الاجراءات وطرق معالجتها ومقدار التضحية التي يمكن ان تقدم تطبيقاً لهذا القرار.
ان ظهور القائد الرمز بالصفات التي يحملها، يجيء في اللحظة التاريخية التي تحتاجها الامة والمرحلة التي تمر بها وتكون بأمس الحاجة اليه كونه الوحيد القادر على التقاط اللحظة والتمسك بها وتوظيف مميزاته باتجاه قيادة الاحداث وتوجيه مساراتها بالاتجاه الذي يخدم طموحات الامة وتطلعاتها وبما يخلصها مما هي فيه من ضعف.
فإذا كان القائد يستمد موقعه من الخصائص القيادية التي يمتلكها ومن طبيعة الدور التاريخي الذي يمارسه في قيادة الامة باتجاه تحقيق اهدافها ورسم ستراتيجياتها. فان ذلك كله وغيره مما يدخل في مقومات القيادة الناجحة، يجب ان يستند الى ثقة الامة بشخصية القائد. والامتلاء بها الى الحد الذي يجعل من تلك الثقة وذلك الايمان حقيقة ثابتة وعميقة في الوجدان الجماهيري العام.
وان مثل هذه الثقة لا يمكن ان تنبثق من الفراغ بل هي عملية تتنامى بمرور الوقت وتترسخ مع تواتر الامثلة العملية التي تكشف عن مستوى الخصائص القيادية المتوفرة في شخصية القائد امام الامة، معبراً عنها في سلامة قراراته وشمولية رؤيته. وحين تثبت تلك ويتعمق ذلك الايمان، يكون التفاف الجماهير حول القائد عظيماً ولا حدود لقوته ومدياته، وينشأ بينهما تواصل روحي وشعوري يضع القائد موضع الامل الدائم خصوصاً حين تتعقد الازمات وتحتدم حتى لا يعود هناك ما يشي بأمكانية وجود أمل في الخروج منها الا بحضور القائد لمعالجتها بالطريقة التي تعرفها الجماهير وتثق بها.
لقد ظهرت قيادات غدت بمثابة مذهب عام يعرف بشخص قائدها وفي ضوء انجازاته تتحدد مكانتها التاريخية ودورها السياسي والاجتماعي الفاعل بين القيادات الاخرى.
مثل هذه القيادات التاريخية لانها قيادات تستمد شرعيتها من كونها جزءاً من شعوبها، ولذا فهي تحرص على تقصي احواله ومعرفة احتياجاته وتطلعاته، وهي بذلك تمارس عملاً ينسجم مع تلك الشرعية.
اما القيادات التي تصطنع الحواجز ما بين القمة والقاعدة فهي قيادات مرتجفة تمارس السلطات بقوة الحديد والنار، ثم لا تلبث ان تنهار وتتلاشى، وتعد هذه القيادات طارئة لا تغرس قدميها في العمق التاريخي لشعوبها ولا تملك الشرعية التي تمدها بالثقة بنفسها وبشعوبها. فالقيادة الحقة لا تكلف عن تقديم النماذج المتميزة في هذا العصر للقيادات التاريخية التي انحازت الى صفوف الشعب اولاً من افتعال الحواجز الوهمية بينها وبينه، ومثل هذه القيادات لا تنكفئ يوماً في برج عاجي بعيداً عن الزخم الحياتي للشارع الشعبي ولا تنقطع يوماً عن متابعة نشاطاته واسداء التوجيهات الى القائمين على امره، وهي خير من يقدر ثقل هذه المسؤولية.
المراجع
المراجع التي استعنا بها ، اعتمدناها للمراجعة والتوكيد والاستقراء لما ورد في الدراسة .
1ــــامير اسكندر ــــ تراجيديا الابطال في عصر الجماهير ، مجلة المنار ( باريس ) عدد 44(اب1988)
2ــــ عبد الرزاق حسين الندواي ــــ الكارزما او القيادة الملهمة ، جريدة التاخي (بغداد ) ، عدد4398 ، الاربعاء 2612005
3 ــــــ مصطفى حجازي ـــــــ الجماهير والقائد في ضوء التحليل النفسي ، مجلة الفكر العربي المعاصر (باريس ) ، العدد 11 (نيسان1981 )