في المدن صور هناك للذكريات ووجوه لا تنسى ، هي تفاصيل لعمق أرواحنا في فضاء التخيل وصنع سعادة نفتقدها من زمن مضى وليس لنا سوى استعادة إحساسه الروحي دون المادي من خلال تلك الوجوه وتلك الذكريات. أنه عالم من قصص تروى الآن غيبياً حيث لم يعد بالإمكان أمساك أطراف ثيابها إذ طارت مع ريح الزمن ، وعقارب الساعة لا تعود الى الوراء ، من يعود هو قشعريرة اللذة بصورة وجمالية ذلك الزمن كلما صادفنا الشبيه لذلك الشيء الذي تركناه بعيدا ، واليوم وانا أدخل الى بائع معجنات ( تركي ) في ( Die Altstadt ) في مدينة دوسلدورف الألمانية ومعناه ( المدينة القديمة ) بهرني رؤية لثلاث انواع من المعجنات معروضة في واجهة الحانوت ، هن ذاتهن يصطفن بانتظام فوق الصينية التي يحملها ( عويد ) على رأسه وهو يدور بين بيوت القرية وينادي على بضاعته ، يهرع اليه الاطفال ، وايضا نسمح له بالتجوال بين الصفوف ليبيع تلامذتنا معجناته وقد جلبوا معهم النقود لأنهم يعلمون إن في هذا الموعد من كل أسبوع سيجيء عويد بزورقه وصينيته التي يغطيها بقماش ( الشيفون ) الابيض ليمنع عنها الذباب والبعوض الذي يشعر بقدوم الرجل وحلاوة ما معه من بضاعه فتتوجه اليه اسراب من تلك الحشرات لكنه يتحمل لسعها المبرح ولا يتركها تقترب من بضاعته ، فهو يكرر أمامنا ضاحكاً :سيشبعني المعدان ضربا ( بالتواثي ) وتعني بالعامية العصا الغليظة يوم يُصبب الإسهال أولادهم بسبب تناولهم معجناته.
ولأنني اعرف اسماء بضاعة عويد أردت أن اسأل المقابل لها في التركية ، حتى اشتريها لجوع يسكنني لذلك الطعم الطيب لمذاق بضاعة الرجل الطيب الذي يجوب القرى ليس كرحاله أو قارئ طالع بل ليبيع الحلويات وكنا نتندر عليه ونقول : سيزيف يحمل الارض على رأسه ، وعويد يحمل صينية البادم .
قلت للبائع التركي : ماذا تسمون هذه المعجنات الثلاث ؟
قال : بادم . چِرك .بخصم .
قلت متعجبا : يا ألهي هي نفسها بأسمائها من كان عويد يحملها في صينيته ويتجول فيها بين قرى المعدان ولم يزل صدى مواويل صوته بنبرته الجميلة وعبارته الشهيرة : أكل بادم وما تندم .
قال : البخصم مع الشاي بعد نوم الظهيرة ، والبادم حين نجوع بين الفطور والغداء ، والجرك يقدم للضيوف مع الشاي ، ويأكله الالمان في نزهة السير هنا لأنه يحتوي على السمسم.
قلت : الأسماء نفسها نطلق عليها في بلادنا .
قال : من اين أنتَ ؟
قلت :من العراق .
ضحك وقال : العرب لم تعرف الحلوى إلا عندما جاءهم الترك والعجم.
قلت : نعم هذه الاسماء اعجمية وتركية ولكن مع البادم جلبتم المدافع والتخلف .
غضب وقال بنبرته الجافه : انت جئت هنا لتشتري أم لتراجع التأريخ .
قلت :اشتري .
أخذ ثلاث قطع ولفها وادخلها في كيس وقال هات 3 أورو ولا تأكلها هنا ، خذها الى بيتك ، وتناولها بتأن وشهية لتستعيد لذة ما تركته هناك من ذكريات .
ضحكت ، كدنا نصل الى الشجار بسبب البخصم والآن وصلنا الى الابتسامة التي بدت وسطها ملامح عويد وصوته وصينيته واضحة تماما.!