في عام ١٨١٨ مقابل السواحل السنغالية في المحيط الأطلسي غرقت سفينة ميدوزا الفرنسية وهرب الضباط على قوارب النجاة تاركين ورائهم أكثر من مئة بحار يواجهون الموت .
صنع البحارة من حطام السفينة طوف نجاة وكان عددهم ١٥ بحاراً ، ظلوا على هذه الحال عدة أيام بلا ماء ولا طعام يعانون العطش والجوع والجفاف ووصل الحال ببعضهم للجنون وأكل لحوم إحدى الجثث .
لمحت إحدى السفن العابرة الناجين فأنقذتهم ونقلوا إلى فرنسا ولم يبقى منهم على قيد الحياة إلا اثنين فقط .
ألهمت هذه الحادثة الفظيعة الفنان والرسام ( تيودور جيريكو فقرر أن يرسم ما حدث رغم بشاعتها ويعبر عن هذه المأساة.
تلك قصة ميدوزا تذكرتها في صباي يوم وقفت أمام اللوحة ذاتها والتي رسمها بإتقان عجيب الفنان حيدر الجاسم الذي كان معلما في المدرسة المركزية في الناصرية وعرضت ضمن المعرض الفني الشامل لمدارس الابتدائية في مركز المدينة ، والفنان حيدر الجاسم يعيش اليوم في امريكا مصمما لهياكل طائرات البوينج وهو اخو الفنان التشكيلي احمد الجاسم مدير الورشة الفنية في مسرح شيلر في برلين والذي توفي بتوقف كليتيه عام 1994.
بين اللوحة الاصلية التي رسمها جيريكو والتقليد التي رسمها حيدر الجاسم هناك ميدوزا ثالثة اطلقنها نحن على مشحوف كبير غرق ذات ليلة مقمرة في مياه الاهوار وفي ليلة عاصفة توفي فيها ستة اطفال وخمسة رجال واربع نساء ، تلك الفاجعة التي اطلق عليها المعلمون تايتانيك الاهوار فيما اطلقت عليها انا حادثة غرق المشحوف ميدوزا .
فهذا المشحوف الكبير الذي بنيَّ في مدينة قلعة صالح وجُلبَ بلوري لحساب احد ربابنة السفن من اجل استخدامه لنقل المعدان من الجبايش والى قراهم ، وطالما كنت اجد السعادة وانا اصعد به مع اهل القرى عندما يجتهد اربع رجال اقوياء السواعد لدفعه بمجاديف خشبية كبيرة.
وفي كل رحله كنت اتخيل حادثة غرق ميدوزا وتلك التأملات الحزينة لفزع الركاب التي كنت اشاهدها في الوجوه التي رسمها حيدر الجاسم في مأساة ميدوزا. وقتها كانت ثمة نبوءة تسكنني ان هذا المشحوف ( ميدوزا ) ربما سيلاقي ذات مصير تايتانيك والسفينة التي غرقت مقابل السنغال لهذا كنت كلما اصعد المشحوف الكبير وتمتلكني رجفة بسبب أني لا اعرف السباحة وحتى ان ركس المركب في الوحل فأن الطين في عمق الاهوار احيانا يتحول مثل الرمال المتحركة ويسحب الغاطس فيه الى العمق.
تلك الصورة المرعبة حدثت عندما اتى الصباح الينا بخبر غرق مشحوف ميدوزا في الليل وكان حصة القرية التي تقع فيها مدرستنا من ضحايا ميدوزا الاهوار امرأتين وطفل .
وقتها تصاعد نواح بلايا المشاحيف كما يعرف هنا وهو نوع من النعاء الذي لا يطلق سوى على الذين يغرقون جراء انقلاب مشحوف في ليل او نهار عاصف وممطر.
المشحوف ميدوزا ، لوحة من الذكريات اتخيلها الآن تسبح في دموع الضحايا من معدان القرى وبين بحارة ميدوزا التي غرقت قبل مئات السنين.!