ليس سهلا على المثقف العراقي ابدا أن يعيش الوضع القائم في البلاد وهو يرى الخراب والدمار الذي يشتعل في كل مفاصل الحياة و مؤسساتها حتى وصل لمنظومتها القيمية ، بل الأكثر مرارةً والماً أن ترى دولا كانت بالأمس القريب تحلم بأن تصل لمستويات بلدك الثقافية و الاجتماعية والعلمية و الصناعية قد تعدت بعجلاتها ذلك الحلم واصلة إلى مصاف البلدان المتحضرة لتصبح مراكز تجارية وسياحية وثقافية و صناعية عالمية . بينما بلاد حضارة وادي الرافدين عادت في ألفية القرن الواحد والعشرين إلى قرون ما قبل الميلاد لتحارب جماعات متطرفة على البشرية من أجل تحرير أرضها من دنس و رجس تلك التنظيمات الظلامية !! .. نعم ان الحرب وتحت كل مسمياتها خراب و دمار و رجوع إلى الوراء..
لا أنسى كلمات مدرس الاجتماعيات عندما كنت في مرحلة الإعدادية وقال لنا : ان الدول التي يتكرر في تاريخها الحروب و الأزمات السياسية هي دول مُدمرة و مُتعبة لأن تأثير تلك الحروب لا يزول بعقود من السنين .. وهذا القول يقودني إلى أن التسبب في إشعال أي حرب يمكن تفاديها بالممكن أو بأقل الخسائر هي مؤامرة بحد ذاتها ..
فـ العراق الذي تحرر من قيود الاستعمار في اربعينيات القرن الماضي شهدت عقود الستينات و السبعينات في نفس القرن المنصرم طفرة نوعية في تاريخه الثقافي و الاجتماعي و الحضاري أوصلته إلى أن يكون واحدا من أهم البلدان العربية و الآسيوية و الإقليمية في المنطقة رغم الانقلابات و الأزمات الأخرى التي حدثت في تلك الفترة إلا انها لم تؤثر على عجلة النهوض و التقدم إلى الأمام . حتى جاءت الحرب العراقية الإيرانية التي اشعلها صدام و نظامه البعثي التسلطي لتقف عندها تلك العجلة مُضطرة و مُجبرة لتتحول
لخدمة الحرب التي استمرت لثمان سنوات أعقبتها حرب الكويت و حصار اقتصادي شديد فرضته القوى الكبرى . و تحت وطأة حكم صدام الديكتاتوري عاد العراق عقودا إلى الوراء أثر ذلك الرجوع ايضا على وضع الإنسان المثقف الذي أجبر على ثلاث خيارات لا رابع فيها كما يَذكر ذلك د. محمد عبد فيحان في كتابه (ملامح الخطاب البعثي في الإعلام العراقي) وهي اما الهجرة خارج البلاد أو الانزواء والابتعاد عن ممارسة النشاط الثقافي أو الوقوف إلى جانب السلطة , وحتى العام 2003 م استبشر المثقف العراقي مع فئات الشعب الاخرى بخطاب الاحزاب الاسلامية التي جاءت لتحكم البلاد بعد سقوط نظام صدام على يد امريكا الذي قالت فيه تلك الاحزاب ايام مجلس الحكم : (من اليوم لا عودة للوراء مطلقا و لا عودة لحروب خاسرة ولا عودة لمصادرة الحقوق و الحريات .. ثروات البلد التي كانت بيد صدام وطبقته السياسية والحزبية ستوزع على العراقيين جميعهم لينعموا بخيرات بلدهم التي حرموا منها عقودا من الزمن ..) !!!! ..
وبعد اثنا عشر عاما على ذلك التغيير و الخطاب لم يتحقق أي شيء حتى اللحظة لا للشعب الذي سرقت ونهبت حقوقه بين محاصصة الاحزاب و لا للمثقف الذي وعِد بلا رجعة الى الوراء بل عاد الجميع للحرب من اجل تحرير الارض من دنس داعش الارهابية .. فأي صدمةٍ يعيشها اليوم الشعب و المثقف العراقي من حكم الاحزاب و التغيير الامريكي ….؟. وكم هي العقود التي سنعود بها الى الوراء جراء هذا الخراب والدمار الذي خلفته تلك الاحزاب …؟ ..