18 ديسمبر، 2024 2:09 م

فكّ الارتباط مع داعش

فكّ الارتباط مع داعش

لا تقلل جدية الحرب على داعش من صواب منطقية علاقة الارتباط بين البيئة القائمة وبين داعش، فالحكومات تحارب الجماعات المتطرفة لكنها تنشئ التطرف والخرافة وترعاهما، ولا ينقض هذه المقولة أن تكون ثمة نوايا ورغبات فعلية في مواجهة التطرف، لأنه وببساطة لا يمكن مواجهة التطرف إلا ببيئة اجتماعية واقتصادية متماسكة وذات منعة فكرية تجاه التطرف، ولا تتشكل هذه البيئة إلا بمجتمعات عقلانية مستقلة وشريكة مع السلطة والشركات، فلا يمكن مواجهة التطرف إلا بتغيير البيئة المنشئة له من الفقر والتهميش والاحتكار وضعف الخدمات الأساسية من التعليم والسكن والغذاء والصحة والرعاية الاجتماعية. لا يمكن مواجهة المتطرفين بجموع من المحرومين والمهمشين، ولن تتشكل جبهة حقيقية إلا بمواطنين يتمتعون بالحريات والكرامة والعدالة، وذلك يعني ببساطة وقف الاحتكار والاستبداد والاستحواذ على الموارد العامة والفرص وإدارة الإنفاق العام بعدالة وكفاءة، وتشكيل الأسواق والمدن والمجتمعات على أساس المشاركة الاقتصادية والاجتماعية. لكن السر المعلن في هذه المعادلة أن ضحايا المواجهة مع التطرف هم، بالإضافة إلى المتطرفين، النخب السياسية والاقتصادية التي أنشأت مصالحها على أساس الاحتكار والاستبداد، وفي اللحظة التي يختفي فيها التطرف فإن نخبا سياسية كثيرة يعاد تشكيلها وصياغتها أيضا.
إذا بدأنا بتفكيك المعادلة من بداية تشكلها، فإننا نريد نظاما سياسيا واجتماعيا ديمقراطيا، ولا يمكن أن تقوم ديمقراطية حقيقية إلا في ظل تنافس حقيقي وعادل بين البرامج والفلسفات والوعود الاقتصادية والاجتماعية على نحو تطبيقي وواقعي، فالديمقراطية تعني أساساً عدم اليقين والنسبية في الأفكار والمواقف، ما يجعل المراجعة والتصحيح واحتمال الخطأ جزءاً أساسياً من النظام السياسي والاجتماعي السائد. ذلك أن نقص المعرفة وعدم اليقين هما الحقيقة الوحيدة التي تنشئ نظاماً سياسياً واجتماعياً ديمقراطياً، وفي ذلك تستحيل الثقة بمقولات الديمقراطية والتسامح والتعددية التي يتقدم بها الإسلاميون والقوميون واليساريون والمقاومتيون والقادة العشائريون والجهويون والشخصيات التي تقدم نفسها على أسس كاريزمية او تجارية أو رشاوى صغيرة، حتى لو كانت تملك برامج صحيحة ومجربة أيضاً، إذ ليس مهماً في شيء أن تكون أيديولوجيا أو رابطة غير برامجية تؤمن بالديمقراطية والتسامح أو تدعو إليها، ففي اللحظة التي تتحول القيم الديمقراطية إلى فكرة جميلة تؤمن بها فئة من الناس على أنها الدين أو التحرر أو المقاومة أو الرابطة الجهوية لا تعود قيماً ديمقراطية. هي أيديولوجيا جميلة على أي حال، لكن الديمقراطية ليست معنية بما يؤمن به أحد من الناس سواء كان على صواب أو خطأ، ذلك اعتقاد فردي يخصّ كل إنسان وحده، ولا علاقة لأحد به، كما لا يجوز لصاحب الاعتقاد أن يسعى في تطبيق ما يؤمن به دينياً على المجتمعات والحكومات والأسواق حتى لو كان ما يؤمن به أفكاراً ومعتقدات صحيحة وعادلة، لكن لا يمكن بشرياً الادعاء بصواب وعدالة فكرة أو مقولة إلى الأبد، ففي هذا التأبيد للصواب والعدالة لا يظل مجال لديمقراطية وتعددية، ما معنى تكرار الانتخابات على سبيل المثل؟
لكن ذلك ليس نضالاً فقط مع “الإسلام السياسي” ليتحول أتباعه إلى متدينين يعملون كمواطنين في ظل نظام سياسي وديمقراطي، وهم مستعدون أيضاً للإيمان باحتمال خطئهم وصواب الآخر! وليس فقط نضالاً لأجل مجتمعات عقلانية تصوغ أهدافها وأخلاقها وقيمها وأولوياتها على أسس عقلانية إنسانية، هي بالضرورة متعددة ومتنافسة ومختلفة في ما بينها لكن يجمع بينها الإيمان باحتمال الخطأ والصواب.
العقبة الأساسية والكبرى هي نخب وحكومات صنعت الإسلام السياسي والروابط العشائرية والايديولوجية على عينها، وتشعر بالتهديد والخوف من الانحسار في حال نشوء مجتمعات عقلانية، ففي اللحظة التي ينحسر فيها التطرف الديني والأيديولوجي والروابط القرابية والجهوية تنحسر أيضاً نخب تكرست مصالحها واحتكاراتها على أساس وجود هذا التطرف.
نقلا عن الغد الاردنية