مع اتساع علاقاتي وصداقاتي ، بداية خمسينات القرن الماضي ، في أثناء العمل، وفي المدرسة، وفي حي ” البجاري ” الذي أسكنه في العشار ، وفي مطبعة ومكتب جريدة ” الناس ” الناطقة باسم حزب الاستقلال فرع البصرة حيث أعمل مصححاً فيها ، كنتُ أسمع فصاحة الكلمة وصدقها ، سراً في بعض الأحيان وعلناً في أحيانٍ أخرى . كانت التجارب الأولية البسيطة والمعقدة محصلات مؤثرة في تفكيري . لم تكن علاقاتي مع الآخرين مجرد مرآة عاكسة ، بل كانت وعاء ً لمعرفتي بالحياة التي أطل عليها تدريجيا ً . في فعالياتي السرية كنت قد بدأتُ في اكتشاف نفسي ومستقبلي. في النشاط العلني كنت ابحث عن المرايا ،التي أجد فيها فرحي وبهجتي مما أقرأ ومما أكتب لأتمم بناء اساسٍ حرٍ لا يفصلني عن الحركات الثقافية ، التي كانت مألوفة بنشاطها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
إنْ أردتُ أن أعرف شيئا عن آداب الإغريق وعلومها فليس صعبا عليّ أن أستعير من صديقي المبتسم دائما (صبري شمعون) كتاباً عن هذا الأدب، اسمه (إلياذة هوميروس) أو (الأوديسة). كما كنتُ أصغي ،بكل دقة، إلى من هو أعلم مني وأكثر ثقافة. كنتُ اعتبر نفسي خير مستمع في هذا الوجود ، إذ لم تكن مصادر العلوم والثقافة بعيدة عني طالما أنّ بيت صبري شمعون لا يبعد عن بيتي سوى كيلومتر واحد.. ومكتبته، في سوق المغايز، لا تبعد عني سوى مائتي متر ليس غير. حتى آمال ورغبات أم صبري التي تلح عليّ بضرورة قراءة الأناجيل الأربعة حققتها بسرور بالغ ليسكنني نوع خاص من الأدب البارق عن سيرة عيسى بن مريم تهز قارئها . كانت، هذه الأم، ترصدني وتترقبني بمحاولاتها التأكد من أن نصائحها قد استقرت في قلبي.
إذا أردتُ أن أعرف شيئا عن الشعر العربي في قديم عصوره كنت أجد في دواوين طرفة ، ولبيد ، وعنترة وغيرها المعارة لي من أبن عمتي حامل لقب ” شاعر القرية ” العضو في حزب الاستقلال (عبد الرضا الملا حسن) وهو يحاول بلا جدوى أن يكسب شبابي لعضوية حزبه القومي حين يتمنى ان يثقفني ويقنعني ان الأمة العربية هي خير الأمم وأنها وحدها القادرة على إنهاء الاستعمار وتحقيق رسالة الدين الاسلامي على الارض، رغم انه كان يعترف حتى بقصائده ومقالاته ان العرب يعيشون منذ زمان بعيد حالة الصراع والتمزق، لكنه مصر أن يرغمني على ترك بعض المفردات (التقدمية) التي كان يعرف من خلالها أني سأغدو شيوعيا ،كما كان يحذر والدي عن خطورة هذا الأمر ، إذ لم يكن يعرف ، بعد ، أن علاقتي بالحزب الشيوعي في البصرة صارت واقعاً . لم يكن يعرف انني غدوت ناشطا طلابيا وأنني كنت من الطلاب المتحمسين في البصرة لإعلان التأييد التضامني الرمزي لأضراب طلاب دار المعلمين الابتدائية وطلاب كلية الطب والصيدلة في بغداد خلال انتفاضة تشرين وما بعدها وأنني كنتُ معاون العامل النقابي الرفيق (أحمد شبيب) مسئول مظاهرة تأييد الدكتور محمد مصدق رئيس وزراء إيران، الذي أمّم النفط الايراني في تلك الايام. كانت مظاهرة الكبيرة انطلقت من أمام ثانوية العشار وأنا مساعد لقائدها.
أما إذا أردتُ الاطلاع على بعض نماذج الشعر الحديث سواء الأوربية المترجمة او مظاهرها العربية التي تجددت بمواهب ابداعية شعرية شجاعة قام بها بدر شاكر السياب ونازك الملائكة فإنني ألجأ إلى محمد سعيد الصكَار ،حيث كنا نسكن في بيت واحد ، فيشحذ معرفتي بكتب او مقالات مترجمة .
كنتُ مولعاً بكل أنسام الثقافة والكتب، التي أجد فيها نفسي وسط حقل كبير من الزهور. هكذا تشعبتْ عندي روافد المعرفة ذات الصيغ والأشكال المختلفة . فالنتاج العربي كله والنتاج الادبي الكوني كله لا غنى عنه لكل من يريد أن ينسب هويته لمدينة البصرة ،التي قدمتْ للإنسانية كلها النقاط القصوى من الثقافة والعلوم ،منذ زمان الجاحظ والفراهيدي ، ومنذ اضواء المعتزلة ونضال بؤساء الزنج والقرامطة. لذلك صارت البصرة رصيف حياتي تحت ضوء القمر مثلما هي حوض يريد الكثير من العراقيين والعرب ان يسبحوا فيه. من يريد حمل هوية البصرة عليه أن يزود نفسه بتذكرة في قطار الأدب والخطابة مدافعاً عن البؤساء والحرية مهما كان الثمن.
كان محيط البصرة الصحفي أضيق من محيط بغداد بالتأكيد . لكن البصرة في نظر زوار العراق، عرباً وأجانب، يجدونها مكاناً مضيئاً يجب ارتياده ضمن برامج الزيارة ، فهي بنظرهم ، كما هو الواقع ، موطن من مواطن التاريخ العربي والإسلامي ، موطن النفط ،والمال، والأدب، والفن، والتراث، والفقه ،واللغة ،والفلسفة ،والعلوم وغيرها .لا يخسر كل قادم إليها بعربة قطار بغداد فالكون فيها والأدباء والناس يستقبلونه بعرفان الجميل لفضله في زيارتهم، كما كان شغف الاجداد البصريين الممتلئين سروراً وغبطة في أسواق المربد القديم مرصوداً بالشعر والبلاغة وبأنواع من جديد البضاعة.
عرفتُ الكثير من الناس الذين زاروا البصرة وقالوا كلاماً مقتضباً عنها لكنه يدل دلالة واضحة على عظمة هذه المدينة الطيبة ، التي يحب إنسانها أن يقبل الألم طيلة عصورها حتى اليوم. ما حماها حاكم ليس سادياً ولا نشر فيها فضيلة جلاد حكم أهاليها بالسيف والغضب . ظلت مدينة البصرة تعاني كآبة العيش، لذلك فهي تصبو إلى نوعٍ من السرور وإحساس المحبة اذا ما جاءها زائر غريب يملك براعة ترديد كلام يمجد التاريخ مظهراً فرحه بأهاليها .
نطقتُ ، ذات يوم ، بالموافقة فورا حين طلب مني عبد القادر السياب رئيس تحرير جريدة الناس بواسطة مدير الجريدة المسئول حمد موسى الفارس أن اذهب في ذلك اليوم من أيام آذار 1953 إلى فندق جبهة النهر على كورنيش العشار للمشاركة بالترحيب بضيوف نالوا الذروة من العناية والاهتمام يوم ذاك من قبل المسئولين الحكوميين الكبار في لواء البصرة حيث ذابت فروض الواجبات الترحيبية بشكل فاق كل القواعد الرسمية المعتادة .
بهدوء واثق طلب مني مدير جريدة الناس حضور حفل شاي للوفد الصحافي العربي الزائر يقام في الساعة الخامسة عصرا . حسبتني اختنق وانا اسمع امراً موجهاً لي فقد داهمتني أفكار سريعة شتى لأنني لم أكن حتى تلك اللحظة قد سمعتُ بحفل اسمه (حفل شاي) فمثل هذا الحفل ما مرّ عليّ بجميع قراءاتي وثقافتي. لكن سرعان ما استعدت حيويتي وصرت أفهم ، رويداً رويدا، الكلمات الهادئة الموجهة من حمد موسى الفارس :
– عندك مهمة خاصة في الحفل يا جاسم .
أحسستُ بحجرٍ ثقيل نزل على صدري، لكن سرعان ما استردتُ حواسي ،وسألتُ:
– مهمة خاصة ..! ما هي يا استاذ..؟
ابتسم ليمنحني الثقة والقوة قائلاً:
– بعدين تعرف.. مهمة ليست سهلة ،لكنك جدير بها ،كما قال الاستاذ عبد القادر ..
دفعتني الحماسة إلى الموافقة على حضور الحفل والقيام بــ(المهمة الخاصة) من دون أن أعرف من هو الوفد الزائر ، ولا نوع المهمة المكلف بها . خمنتها ، بعد تركيز تفكيري ، أنها مهمة كتابة تقرير صحفي ،كالمعتاد، في مثل هكذا فعاليات .
بعد وقت غير قصير من استخدامي وسائل الحيلة والتمثيل والفضيلة استطعت أن أعرف اسميْ الضيفين وهما من البارزين في الصحافة العربية كان عبد القادر السياب عنهما بصوت خفيض كأنما يتحدث عن ميرابو وفولتير. معهما شخص ثالث قال عنه بلهجة رهيفة أنه مليونير لبناني وسياسي معروف ، ثم ختم هذا السر بقوله: لا تلح يا جاسم.. إنهما جاءا الى البصرة ليضعا النواة الاولى لجمعية الصحفيين العراقيين في البصرة .
سألتُ الأستاذ حمد موسى الفارس أكثر من مرة عن مهمتي هناك فكانت أجوبته مبهمة فقال انك تحضر الحفل للمشاركة في شرب الشاي وتناول الحلويات.. مهمة سهلة .. أليست كذلك ..؟ المهم ان تحضر مع وفدنا إلى جانب عدد غير قليل من ” أهم ” العاملين في صحف البصرة . ثم أنهى حديثه بابتسامة. ناظراً إلي بتركيز.
ضحكتُ حين نطق بكلمة ” أهم ” .. سألت نفسي أولا هل أنني ” مهم ” في الصحافة البصرية كي أدعى لهذا الحفل وأنا ما زلت في أول الطريق الصحفي ..؟ رددتُ مع نفسي عدة روايات عن الحفل بين الساعة الواحدة ظهرا حين بُلغت بمهمة الحضور والساعة الخامسة عصراً ،التي كنت فيها اجلس بهيئة غريب داخل صالة الاستقبال في الفندق. كلهم أفندية من الطراز الأول بملابس أوربية زاهية. نظراتهم سريعة وكل واحد منهم يضع حقيبة أوراقه على ركبتيه، بينما كنت جالساً على محراث من القلق والوجل، خاصة حين تجول نظرات بعض الحاضرين نحوي. كنت أظن أنهم قد يسخرون مني أو يهزؤون بي وقد أجبرني ذلك على الجلوس منفرداً مطأطأ الرأس أو منشغلا بتقليب أوراق قليلة بيدي . ليس من بين الحضور شخصاً أعرفه فصرت في حالة استبحار فكري حالم. كنتُ أحاول فيه أن أجد نفسي في مكان بمثل هذا الحفل وأنا اصغر الحاضرين سنا وأقلهم أهمية في الصحافة .
لم يكن ، بإمكاني ، في تلك الأيام ارتداء جليل الملابس إذ أن حمى الفقر واضحة في ما كنت ارتدي من ملابس (اللنكات)، أي الملابس المستعملة المستوردة من أوربا ، وهي ملابس زهيدة الثمن كانت نعيماً مقيماً على أجسام الفقراء العراقيين في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، لكن شاء عبد القادر السياب أن يمنحني هذه ” الأهمية ” في الحضور من دون إعارة أهمية لملابسي الفقيرة ، مع توصية لي بضرورة ارتداء ملابس فاخرة مع ربطة عنق، رغم التباين الفكري المتباين بين ما أحمله من أفكار طرية عن الاشتراكية والشيوعية والرأسمالية وما يحمله هو من أفكار قومية عميقة . كان بإمكانه أن يدعو آخرين من العاملين أو المحررين في جريدة الناس من العناصر ذات الفكر القومي ، لكنه أعد ورتب حضوري إلى هذا الحفل لإلقاء كلمة أو ربما لغاية في نفس يعقوب . حسنا أيها السيد السياب سأحاول أن أكون في الحفل كما أردته أنت كي تبدو جريدة الناس بمرآة نضرة. قبل مغادرتي البيت ما لبث محمد سعيد الصكَار يلحّ عليّ بارتداء بدلته الزرقاء التي كان قد استعملها مرة واحدة في العيد الماضي. انتصرت البدلة على جناح السرعة لتجعلني أبدو بنوعٍ من مظهر جديد .
وجدتُ الواجبَ يفرض عليّ أن أكون بارعاً في الخطابة ،تماماً مثل براعتي في الفوز بمسابقة الخطابة يوم كنت في الصف السادس الابتدائي عام 1947 في مدرسة الرجاء العالي. لكن، اليوم، عليّ أن أتنازل عن امتيازي بكوني شيوعياً يندفع ،بحماسة صحفي، للترحيب بصحفيين بورجوازيين ،بكلمات دقيقة ، في لحظات زمنية مختصرة، ربما يكون لها عمر طويل وتأثير كبير في تجربتي. كان عليّ أن أنقذ نفسي من اليأس ومن الخطأ ،في وقت واحد. أهم شيء هو المحافظة على موهبتي الصحفية ، خاصة وكنتُ اعتقد ان إلقاء كلمة أمام نخبة الحاضرين ربما تغيّر حياتي لنقلها كليا الى ميدان الكتابة الصحفية .
الساعة ، الآن ، الخامسة تماماً . ألتفتّ إلى وراء فإذا بالضيوف يتوافدون ، واحدهم يقتفي خطى الآخر حتى صاروا داخل القاعة المعدة للاحتفال . كان معهم عدد من المضيفين من بينهم حمد الفارس المدير المسئول في جريدة الناس ، لكن عبد القادر السياب لم يكن حاضرا . عرفتُ ، من هذا ومن ذاك ، أن أغلب الحاضرين هم من العاملين في صحف البصرة وبعضهم من صحف غير بصرية . كما ضم الحضور تجاراً من البصرة والزبير . انتبهت جيداً فلم أجد وجهاً معروفاً من قادة الحزب الوطني الديمقراطي ولا من صحفييه.
اللقاء ، لم يكتمل بعد ، لكنه ولــّد في نفسي رغبات سريعة اجتمعت كلها مرة واحدة . الرغبة الأولى التعرف على أسماء المحتفى بهم. الثانية أن يوفر لي أحدهم حدود (مهمة) ينبغي أن أقوم بها في هذا الحفل كي أتحرك من مكاني على الأقل. الثالثة أن تكون هذه الأمسية مفيدة لتطوير إمكانياتي الصحفية .
بدأ توزيع الشاي والمرطبات . جلس الحاضرون المحتفى بهم على جانب اليمين من الصف الأمامي من القاعة . بينما جلس البصريون من الصحفيين على بقية صفوف الكراسي. الشخص الوحيد الذي اعرفه ويعرفني جيداً هو الصحفي المتخصص بجمع ومتابعة إعلانات (جريدة الثغر) اسمه محسن طه البصري الملقب بــ( دون جوان البصرة). شاب وسيم يبالغ في تزيين وسامته . كان دائما يصف نفسه انه الصحفي الاذكى في لواء البصرة بينما تنقصه القدرة عن كتابة اي مقال مهما كان قصيراً ، وهو شقيق صديقي انور طه البصري . كان الشقيق الصحفي يعرف ترددي على شقيقه العاطل عن العمل في بيته . كثيراً ما كان يشاهد جلوسنا في مقهى البلدية بالبصرة أو في كازينو شط العرب بالعشار، أيضاً. كثيراً ما حاول، في تلك الساعة، أن يخدع أحاسيسه متظاهراً أنه لا يعرف أن علاقتي بشقيقه لا شأن لها بالنشاط الشيوعي. ابدى بهجته بابتسامة مشرقة ليكشف لي ان وجودي هنا في الحفل ليس غريبا فهو يعرف عن عملي في جريدة الناس .
الشخص الثاني الذي كان حاضراً ،يعرفني واعرفه جيدا، هو بهجت الانكرلي، وهو ايضا من العاملين المشغولين بذهنية جمع الاعلانات لصحيفة الناس والخبر وغيرهما. كان يتقاضى نسبة 10 بالمائة من كل اعلان . حاول عدة مرات أن يفك علاقتي بالكتابة الصحفية والتصحيح الطباعي والعمل معه في الاعلانات الصحفية حيث تحقق مردوداً مادياً لمقاومة صعوبات العيش في مجتمع لا يرحم الضعفاء الفقراء. كان يقول لي دائماً أن قلم الصحفي لا يحقق أي حلم مادي . كذلك الشيوعية لا تحقق للصحفي حتى فنجان قهوة. بعد سنوات ثلاثة عرفت ان بهجت هو احد الواهبين السريين لنشاط مثمر في احدى خلايا الحزب الشيوعي وعانى درجات من البؤس والقهر حين وجد نفسه ذات يوم في موقف شرطة البصرة عام 1956 مدة زادت على ثلاثة أسابيع.
كان الصحفي عبد العزيز بركات قد حضر.. ربما كان اكثر الحاضرين العراقيين اناقة الى جانبه رأيتُ فيصل حمود جالساً ، وهو صاحب أول وأكبر مكتبة للتوزيع في لواء البصرة . أحد الشخصيات المثيرة للانتباه ايضا كان حاضراً من آل باش اعيان . عدد من المحامين حضروا مبكرين ، منهم حسن عبد الرحمن، ويوسف الوجيه ،والشخصية التقدمية إبراهيم عبد الحسين، وكذلك سالم الوجيه المحامي ، الذي كانت له صلة ما بالحزب الشيوعي ومثلها بالحزب الوطني الديمقراطي.
بدا لي وقت الانتظار والتجمع طويلاً جداً كنت قلقا انهض من مكاني مرة واختفي في حديقة الفندق مرة أخرى واخترع الاعذار لنفسي بالتحرك داخل الفندق.. احس بنوع من سوء التفاهم بيني وهذه الطبقة البورجوازية الجالسة في هذه القاعة . حانت لي الفرصة بتحقيق إحدى رغباتي وهي التي كلفني بها عبد القادر السياب بإلقاء كلمة ترحيب . علي ّ أن أبحث الآن عن شخص اسمه منير فرح .
على الفور ذهبت إلى أحد المضيفين . كانت حركته التوجيهية لعدد من المسئولين بالحفل تشير إلى أنه يحمل أسرار الحفل ويعرف غالبية الحضور .
حين ذهبت إليه وجدته منيراً حقاً وفرحاً حقاً رغم أنني لم اسمع عنه شيئا سابقا كما لم أتعرف عليه لاحقا .
سألته :
– أستاذ منير هل لي بترخيص منك لإلقاء كلمة ترحيب بالضيوف الكرام وبجميع الحاضرين .
على الفور ارتسمت كل ضروب الاستغراب والتعجب على وجهه كأنما حزرت أيضا انه تفاجأ بطلبي وربما أدرك وجاهة الطلب ، فهذا اللقاء بحاجة إلى كلمة فعلا .
لا ادري لماذا احسست انه كان ضجراً من سؤالي في تلك اللحظة وهو منشغل بتقليب أوراقه واصدار تعليمات متنوعة سريعة لبعض اصحابه. سألني:
– نعم بإمكانك أيها الشاب لكن باسم من يمكنك الترحيب ..؟
أجبته فورا وبحماس:
– باسم جريدة الناس وباسم مدينة البصرة .
بمظهر بورجوازي عميق وبنظرات ارستقراطية سألني بكلام شعرت فيه لهبا وحرارة:
– لكن ما اسمك ايها السيد ..؟
– جاسم المطير.. اسمي جاسم محمد المطير أيها الاستاذ..
– نعم تذكرت سبق وأن أخبرني عنك الاستاذ عبد القادر ..
ثم نظر الي بامعان قائلاً:
– حسنا فعلت بحضورك مبكراً..
رحب بي ورحب بجريدة الناس وعزم على تكليفي بقراره السريع بالموافقة ، ثم قدّم لي كل المعلومات اللازمة عن وقت دعوتي لإلقاء الكلمة وعن مكان وقوفي وبعض نصائح وتوجيهات أخرى . انهى كلامه بالقول أنه تلقى في الليلة الماضية توصية من عبد القادر السياب كشف فيها عن موهبتك الخطابية ولياقتك في إلقاء خطاب الترحيب بالضيوف الصحفيين الكرام بما يناسب ومكانة الضيفين الصحفيين وصاحبهما الثالث. ثم طلب مني الخضوع التام لأصول وقواعد الترحيب بمثل هكذا مناسبات والالتزام بمنهجية الحفل والمجاملات. كان مستغرقا في تلك اللحظات في مطالعة ملابسي الكاشفة عن فقرٍ مقارنة مع جميع الحاضرين. كنت اشعر بضيق صدري اذ ربما كانت سحنتي في تلك الساعة شاحبة .
قبل حلول اللحظة الحاسمة كنت أحس بمعاناة شديدة بين التأمل والاستسلام . كنت في حالة قلق شديد . كل شيء أراه ، في هذه القاعة، كان يصدمني بإحساس غريب.. ربما يتحقق حلم من احلامي في النجاح وربما يولد خطابي ولادة سيئة يعرضني لكثير من الاخطار . لكن ،رغم ذاك التوتر، فقد كان محمد سعيد الصكار ضامنا لي حين وقفت خطيبا امامه ملقيا كلمتي على سبيل التجربة والتدريب. كما أتيحت لي التجربة الثانية امام مسئولي الحزبي في الصباح الباكر الذي فاجاني بكلمة :رائع.
اجتزت طريق ترتيب المعلومات في ذهني بسرعة وبفرح ثم أطلقت كلمة أمام الحضور جاء فيها :
أيها الحفل الكريم
أشرقت الشمس في فجر هذا اليوم برغبة كبيرة لتقول بكل حماسة من على ضفة شط العرب الى ضيوفنا الكرام ان جمعية الصحفيين العراقيين انبثقت بوجودكم هنا . قدرنا ان تكون حريتنا في جمعيتنا وجمعيتنا نتاج افكاركم الحرة.
باسم هذه المدينة التاريخية ذات النشاط المحتدم في العلوم والآداب والفلسفة أرحب بضيوفنا الكرام .
وباسم كل صوت صحفي حر في هذه المدينة،
وباسم الصحفيين العاملين في جريدة الناس ،
وباسم السيد عبد القادر السياب أرحب بإخواننا السادة الأفاضل العاملين في الصحافة المصرية كل من الأستاذين مصطفى أمين أحد أصحاب جريدة أخبار اليوم الغراء وزميله ناصر الدين النشاشيبي مندوب جريدة أخبار اليوم في عمان. . إننا جميع الحاضرين من صحفيي البصرة لفخورين باستقبال هذين القلمين البارزين اللذين يصنعان لقرائهما كل يوم رأياً سديداً وعزماً شديداً لإيصال المواطن العربي إلى شاطئ الحرية . إن الصحفيين في البصرة يأملون الاستفادة من أهم مواهب الابداع الصحفي في العالم العربي المتمثلة بالصحفيين والاديبين الضيفين والتعرف إلى خبرتهما الصحفية والإفادة من زادهم الغني الحامل لكثافة الحرية ومعانيها وإغنائها بما يكفي من تغريدهم عن الحرية فوق اغصان الصحافة . كما أرحب باسم زملائي جميعا في جريدة الناس بالأستاذ أميل البستاني ،رجل الأعمال اللبناني، عضو مجلس النواب ، الذي رافقهما في هذه الزيارة الكريمة و حلّ ضيفاً علينا في مدينتنا ناقلاً إلى ربوعها أنسام الجبال والى جميع صحفها وصحفيها كلام الحرية اللبنانية الشامخة وافكار المثقفين اللبنانيين الديمقراطيين المنيرة ..
أهلاً وسهلاً بكم جميعاً ضيوفاً أعزاء فكل الصحفيين في البصرة سعداء ،في هذه اللحظات ، للاحتفاء بضيوفهم الكرام.
بكم وبجهودكم وبفكرة انشاء الجمعية فأن الصحفيين في مدينة البصرة ينتزعون انفسهم من مشكلات العمل بقواهم الخاصة وبمسؤولياتكم العامة في تأسيس الجمعية واعتبار جميع صحفيي مدينة البصرة اعضاء فيها منذ هذه اللحظة، والسلام عليكم .
لم استبعد ثقل المسئولية عند نهاية كلامي لكنني أحسستُ طمأنينة قلبي حين استمعت إلى تصفيق الحاضرين فكنت مرتاحاً جداً. أول من أظهر لي احتراماً شديداً هو حمد موسى الفارس ، الذي قال لي وهو يحييني بعد جلوسي بجانبه: شكرا لله.
شعرتُ أن الكلمة نالت استحسان الجميع . بذات الوقت وجدتُ ، في اليوم التالي، استحساناً وتشجيعاً من مسئولي في الحزب الشيوعي ، آنذاك، محمد إبراهيم المظفر ومعه عضو اللجنة الطلابية الحزبية رجاء عبد الرزاق ، الذي كان ينسق معي خطوات وجودي في هذا الصنف الغريب من النشاطات، غير الشيوعية، حيث قال لي: عفية رفيق جاسم.
ثم مضى يوم أو يومان واجهت ، بعدهما ، عبد القادر السياب، الذي استحضر كلمات الشكر والتشجيع فقدمها لي، ثم أمر محاسب الجريدة بصرف مبلغ قدره نصف دينار، مكافأة إضافية لي لهذا الشهر ، وقد قال لي بالحرف الواحد :
– كلمتك في حفل استقبال الزملاء الضيوف حسبما سمعت عنها كانت بالمستوى الذي توقعته منك .
تواصل الاحتفال بالوفد نفسه حتى الساعة الثامنة مساء حيث قدم العشاء والمشروبات المتنوعة . أقام هذا الاحتفال التاجر البصري الكبير محمد احمد الغانم . حضرت إلى هذا الاحتفال المسائي، أيضاً، مرغماً تحت ضغط ورجاء حمد موسى الفارس باسم عبد القادر السياب ، حيث كلفني بضرورة كتابة تحقيق صحفي عن المناسبة . لأنني لم أكن أعرف كتابة التحقيق الصحفي ولا أصوله فأنني ما استطعت أن اكتب غير تقرير خبري قصير أعيد صياغته من هيئة التحرير ، نشر لاحقا مع معلومات عن حادثة لصوصية وقعت في اليوم التالي .
في حقول شركة نفط البصرة، في صحراء الزبير، أقامت الشركة في اليوم التالي احتفالاً كبيراً للوفد اللبناني والوفد الصحفي. كما حضر الحفل أعضاء وفد برلماني بريطاني كان يزور البصرة في تلك الأيام ، لكن هذا الحفل لم يكن يبشر بالراحة ، فقد انتهى بسرقة كاميرا المليونير اللبناني أميل البستاني . يبدو أن الكاميرا كانت عزيزة جداً عليه إذ أدى فقدانها إلى تأثره وانزعاجه ، مما جعل الشركة تقوم بتفتيش دقيق عن سارق الكاميرا ، الذي ظهر فورا أنه من موظفي الشركة نفسها . نعم كان السارق انكليزياً . في اليوم التالي ، وبعلم أميل البستاني ، تم تسفير الموظف الانكليزي مطروداً من العراق إرضاء للمليونير البستاني .
الواقع أن هذه الزيارة لم تترك لدى الصحفيين في البصرة أي انطباع ايجابي . فلم يترك أي من الصحفييْن ، اللامعين ( مصطفى أمين وناصر الدين النشاشيبي) بعد مغادرتهما ، أي تأثير في البصرة إذ لم يقولا كلمة ، ولم يقدما ملخصا ًلتجربة ،ولم يقدم أي واحد منهما محاضرة . كما لم يزورا مكتب أي صحيفة بصرية . بدا لي أن الوفد كان بعيدا عن الصحافة قريبا من الصفقات المالية والتجارية مع شركة نفط البصرة الاحتكارية ، في هذه الزيارة .
بعد بضعة ايام من هذه المناسبة كنت موقوفا بمركز شرطة البصرة مع 25 شيوعياً آخر كأجراء احتياطي لزيارة الملك فيصل الثاني المقررة يوم 4 نيسان 1953 بمناسبة تتويجه رسميا ملكاً على العراق . لم تلتصق احاديث الموقوفين بالتتويج الملكي، بل كانوا طيلة 4 ايام من التوقيف مشدودين بسلاسة تامة الى سماع أحاديثي بتفاصيل وافية عن زيارة الوفد الصحفي العربي، التي ظلت اهدافها ونتائجها مختبئة تحت طاولات شركة نفط البصرة .