والمنفى يا حبيبتي مهنة شاقة
ناظم حكمت
يقول أبي : المدن جسد يتكون من حارات ومقاهي.
لا أعرف كيف جمع أبي هذا الوصف الساحر لروح المدينة ، لكني أحمل هذا الوصف أينما هتف في مسامعي بعيري وقال : أنزل براحلتكَ هُنا.
كل المدن ومنها مدن الخيال ينبغي فيها أن تصبغ ذيل البعير حتى لا يضيع في شوارع قد تبهره من أول نظرة.
ولا أدري أن كانت جرمانا الواقعة في ريف دمشق كجزء من غوطتها تصلح لتكون منفى اختياري لصديق قريب عشت معه اجمل ايام التعليم ، حد الذي قرر أن يموت فيها عازبا ومحبا لليلها الذي نتجول فيه فلم اجده اكثر اغراء من أرائك القصب المضغوط في أول مقهى في الاهوار ، تلك الارائك تصلح لتكون محفزا لكتابة القصيدة وتأمل اسراب بط الخضيري وهو يختبئ في اعشاش بناها بين الماء والقصب.
كلما أمر على الشام أخطف قدمي الى جرمانا وأركب السيرفيس بخمس ليرات لألتقيَّ صديقي ومعي له ما يوصيني به كل مرة خمس صابونات ( دوف ) وخمس علب شامبو وقطع من الشكولاتة السويسرية وقميص صيفي .
وعندما أسأله :ولماذا القميص الصيفي .؟
قال :لأوهم الذين يروني وأنا أسير معك أنني آت من اوربا لقضاء الصيف في الشام.
وسوية في شوارع جرمانا نستعيد ما كنا نعيشه حيث المكان بيوته قصب وليس شقق مؤجرة تدلف اليها في رتابة حركتك اليومية ، المقهى ، ساحة الرئيس ، كراج السيرفسات ، مطعم قاسم أبو الكص ، بار سيرينا .
قلت له مرة : أنت ليس لهذه الامكنة ، أما أن تعود الى الجنود أو تذهب الى ( U N ) تطلب اللجوء الى بلد يأويك من خراب هذا اليوم وجشع صاحب الشقة الدرزي.
قال : ذهبت وعملت لهم ملفا منذ ثلاث سنوات وأنتظر.
وهل اخبروك بشيء .؟
قال : كلا ، عدا تواريخ اذهب بها الى الشام لأستلم بطانية ودوشك إسفنج وصندوق مواد غذائية ، من دون صابون لأن الصابون تجلبه به أنت.
أضحك وأقول : كلما اعود أشتاق السير معك لأننا نستعيد المفقود الذي نحتاج اليه ، ذكريات مدرستنا في قرية أم شعثه .اما هذا المكان ذكرياته لأهله فقط .
قال : ولكننا صنعنا له ذكرياته حين سكنا فيه .
قلت : هو ليس مكانك.؟
قال : أينما يكون هناك بار ومقهى واحساس أنك تغمض عينيك بأمان تتكون صورة المكان.
قلت :هناك ايضا كنا نغمض عيوننا بأمان .
ضحك وقال : أحتاج الى هذا المكان ، وذاك المكان للماضي. هيا بار سيرينا سيفتح بعد ساعة ، سأكون ضيفك لأعبئ في جوفي بفضل دولاراتكَ كمية اكبر من الجعة.
أجلس أمامه ، لقد كبر ولم يقترن بزوجة ، وربما هذا المكان بعض من مشاعر أزليته ، لقد تعود على دهشة أخرى ليس فيها حرمس وبعوض وروث جواميس وابريق شغاتي الممتلئ المصبوغ بعتمة رماد القصب.
حين ثمل كثيراً قال :احملني بتكسي الى شقتي ،وأذهب انت الى شقتك ، المكان لا يأوي سواي.
حين اوصلته كان هو يطلق شخير عدم غريب.
عدت الى الشارع ، بدت جارمانا مثل سجن امنيات لشعب مهاجر بقدرية اسمها الحروب والطغاة . لم أحب المكان كما احبهُ هو . دمشق اكثر جمالاً ووضوحا والاماكن فيها أليفة.
في الصباح اتصل هو بي حين استيقظ وأخبرني أن ( UN ) ارسلوا له رسالة نصية من أجل أجراء مقابلة مع وفد كندي ظهيرة هذا اليوم .
في المساء ذهبت اليه وسألته بشغف : ها لقد قبلوك ؟
قال : ومن قال انني ذهبت ، لقد أتت اليَّ بعد ربع ساعة رسالة نصية اخرى تقول :ان جرمانا قبل لجوءك ، ففضلت جرمانا على مونتريال ، ولم اذهب الى (UN) ……!