لعقود قليلة خلت، لا تُذكر اليابان إلا ويُذكَر تاريخُها العسكري، من الحروب الداخلية القبلية وأشهرها في منتصف القرن الخامس عشر بين عشيرتي الهوسوكاوا والبامانا التي سالت فيها دماء غزيرة والتي رسّخت فنون القتال التقليدية بالاسلحة البيضاء الى حرب المقاطعات؛ وكان الهدف دائما الصراع على كرسي الحكم الذي له ما له من امتياز بما في ذلك الشأن الاعتباري المقدس!
حتى أذا هدأت حمى الحروب الداخلية، ووقفت اليابان على قدميها؛ بدأت سلسلة الحروب الخارجية متجاوزة الجزرالمعزولة الى دول الجوار! الحرب اليابانية الصينية الأولى 1894-1895؛ والحرب اليابانية الروسية 1904-1905؛ والحرب اليابانية الصينية الثانية1937-9451؛ وأخيرا الحرب اليابانية الأمريكية كجزء من الحرب العالمية الثانية حين هاجمت اليابان قاعدة بيرل هاربر في ديسمبر/ك1 1941 ودمرت القاعدة رمز الشموخ العسكري الأمريكي، ولعبت زهرة الساكورا دورا مهما في جميع الحروب وكانت سببا في اندفاع فرق الانتحاريين اليابانيين ضمن معتقد راسخ هو أن المضحِّي بحياته في سبيل اليابان سيسكن روحُه زهرةَ الساكورا! ثم انتقمت أمريكا بجبن بقصف مدينتي هيروشيما وناغازاكي بالقنابل الذرية التي استخدمت لأول مرة في 11 سبتمبر/ أيلول 1945 حيث استسلمت اليابان!
وقد حاولت في كل مرة اليابان أن تُحسّن من سلوكها العسكري بإهداء أشجار الساكورا الى الدول المتحاربة معها، وهكذا دخلت هذه الشجرة المسالمة المحبوبة الى حد القداسة لعبة الحرب والسلم عنوة!! إذ في عام 1912أهدتِ الولاياتِ المتحدة الأمريكية 3000 شجرة وعاودت الكَرّة في عام 1956 ب 3800 أخرى؛ ولتطييب خاطر الصين بعد الحرب أهدتها 2000 شجرة وعاودت الكرة بعد عَقد من الزمن لتهديَها 0050 شجرة وهكذا استمرت بعد الحرب العالمية الثانية التي تمحورت فيها اليابان مع المحور لتهدي الدول المتضررة من احتلالها كتايلندا وماليزيا واندونيسيا لتنتشر هذه الشجرة الجميلة حتى الى الدول الأوربية أيضاً فعندما زرت ستوكهولم في نهاية مارس/آذار وأبريل/ نيسان 2015 كانت أشجار الساكورا المزهرة تسطع بجمالها الآسر في حدائق المدينة الجميلة!
فما الساكورا ياترى؟ وما علاقتها بالهايكو؟
الساكورا Sakura هي شجرة الكرز (حب الملوك) اليابانية وهي من فصيلة اللوزيات كالمشمش والخوخ واللوز والبرقوق/العنجاص.. وهي أي الساكورا تُزهر دون أن تُثمر والهدف من تنميتها هو أزهارُها، التي تتنوع حسب لونها وعبقها فأجملها ذات اللون الأبيض الذي يضرب الى الى الأرجواني الخفيف في وسط الزهرة، والثاني هو اللون الوردي /الأرجواني. تزهر الساكورا في أوائل الربيع الياباني الذي هو شهر شباط/فبراير في أوكيناوا ويبدأ في طوكيو في آذار/مارس وعندما يحل نيسان/أبريل تكون الطبيعة اليابانية قد اشتعلت بلون الساكورا الجميل وعبقها، وكذلك الحدائق العامة وحدائق المدارس..
ويصادف ازدهارها التام مع بدء العام الدراسي الياباني ومع بدء السنة المالية اليابانية ما يشيع جوا من البهجة والتفاؤل..كل هذا ولا تورق شجرة الساكورا الا بعد أسبوع من سقوط آخر زهرة!!
تطبع هذه الزهرة الحياة اليابانية وتدخل في تفاصيلها، فبالإضافة الى كونها رمز الثقافة والفن الوطنيين فهي موجودة في معظم المنتجات الوطنية من أنسجة وألبسة كالكيمونو وتجدها مطبوعة على القرطاسية والصحون والمنتجات الخزفية وتدخل في الأطعمة كالحلويات والأشربة مثل شاي الساكورا ومواد التجميل والعطور ومغذيات البشرة…الخ.
وما هو مهم هو تأثير الربيع المتمثل بهذه الزهرة على الأدب والفن وعلى وجه التخصيص الشعر والموسيقى والرسم. حيث تعم المهرجانات الشعرية والموسيقية واللوحات الراقصة والتي يرددها ويشارك فيها قطاعات واسعة من الشعب ونخب الثقافة منظمةً كأحسن ما يكون التنظيم في الحدائق وأحضان الطبيعة حتى تكوَّن لونٌ غنائي موسيقي يحمل اسم الساكورا، التي تشكل طقوساً احتفالية مصحوبة بشرب شايي الساكورا، وقد اشتهرت منها أغنية ميلودية راقصة ذاعت شهرتها لا في اليابان وحسب بل في أوربا حتى غدت سفيرة اليابان الى العالم تحت اسم “ساكورا ساكورا” التي أصبحت ضمن المناهج التعليمية اليابانية مذ أنْ غنّاها طلاب كوتو في أكاديمية طوكيو للموسيقى* عام 1888 :
ساكورا ساكورا
في الحقول والقرى
على امتداد مرمى البصر
أضباب هو ذا أم سحاب؟
عبق ضائع في شمس الصباح
الأشجار تشتعل زهورا
***
ساكورا ساكورا
عبر سماء الربيع
على امتداد مرمى البصر
أضباب هو ذا أم سحاب؟
عبق ضائع في الهواء
هلمَّ الآن هلمَّ الآن
لنرَ ماذا بعد!
أثرت موسيقى الساكورا وألهمت الموسيقار الإيطالي الكبير غياكومو بوجيني (1858-1924) في أوبرا مدام بترفلاي ” السيدة الفراشة” في بعض من مقاطعها.
وتأثر بها أيضاً كات ستيفنس (يوسف إسلام)
وليس أخيرا مطرب الروك بون جوفي..
ولعب الربيع الياباني والمتمثل بالساكورا دورا مهما في الفن التشكيلي الياباني والذي انتقل الى أوربا بعد مدة طويلة من الحصار الثقافي عن طريق المعارض اليابانية التي أدهشت التشكيليين الأوربيين ومنها معرض الرسوم اليابانية باريس والذي أثرّ تأثيرا كبيراً في الانطباعيين المقيمين في فرنسا وألهمت تقنيته الرسام الكبير فان كوخ الذي تركت فيه أسلوبه المميز اعتباراً من عام 1886، وأطلق على هذه المرحلة مرحلة التأثير الياباني حتى أنه رسم ثلاث لوحات يابانية.. وذلك موضوع آخر!
*لسماع الأغنية: www.youtube.com/watch?v=chawADnoFDng