استمرت موجة النزوح والتهجير التي شهدها العراق، ويبدو أنه لا نهاية لمعاناة النازحين التي تتكرر أسبوعيًا وفي كل مرة تكون أسوأ من سابقتها؛ بعد أن دخل تنظيم الدولة الإسلامية وبسط سيطرته على الرمادي وتحولت المدينة إلى أرض معركة، ومع القصف غير المدروس الذي لا يفرق بين المدني والمسلح، وانتشار خبر أن حكومة بغداد ستبدأ عملية استرداد وتحرير الرمادي من التنظيم (!) حتى نزحت العوائل باتجاه جارتهم بغداد، وخرج عدد من هذه العوائل من المدينة لكون أحد أفراد العائلة منتسبًا لدى الأجهزة الأمنية (الجيش والشرطة والقوات العشائرية الموالية للحكومة المعروفة بالصحوات).
تُقدر أعداد النازحين من الرمادي والمحصورين عند جسر بزيبز، المنفذ إلى بغداد، بنحو 34 ألف نازح، والأعداد في تزايد؛ خاصة بعد أن سيطر التنظيم على منطقتي المضيق وحصيبة الشرقية بين الرمادي والخالدية التي باتت قاب قوسين أو أدنى من السقوط بيد التنظيم، واستمرت حكومة بغداد في منع دخولهم بذات الحجة؛ وهي وجود مندسين بينهم، وإلا بشرط الكفيل وتعقيدات عديدة.
عشرات الالاف في العراء
وتشير الإحصاءات إلى أن من دخل بغداد لا تتجاوز نسبتهم 10%، وهكذا بقي عشرات الآلاف من النازحين في العراء وسط أجواء غابت عنها أبسط مقومات الحياة، ناهيك عن الحالات المرضية المزمنة، إضافة لأمراض أصابت الأطفال وكبار السن، وأكثر من (200) حالة مرضية بـ “الإسهال”؛ بسبب المياه الملوثة وانعدام الأدوية.
وفي خضم المأساة التي تعيشها العوائل النازحة غرب بغداد (قرب الجسر)، فقد وضعت امرأة أنبارية طفلتها في ظروف افتقرت لأبسط مقومات العناية الطبية، كما توفى في نفس اليوم طفلان وامرأة ورجل مسن؛ بسبب الجوع والعطش، ليلتحق بهم طفل ظهيرة يوم الأربعاء بعد التدافع على جسر بزيبز المؤدي إلى بغداد.
وتوالت حالات الوفاة حين توفت امرأة في الساعة الواحدة من يوم الخميس، وبعدها بساعات قليلة توفى طفل؛ لتكون حصيلة الأطفال الذين فارقوا الحياة خمسة أطفال، مع حصول العديد من حالات الإغماء وأمراض أخرى، لا سيما ارتفاع درجات الحرارة، ومنعت الحكومة دخول العديد من السيارات المحملة بالأغذية والأدوية والمساعدات.
وافترش الآلاف من النازحين الأرض بالقرب من الجسر، وفي قرى البوعيسى (بناحية عامرية الفلوجة) يشربون ويغتسلون من المياه الملوثة؛ لشح المياه المعقمة والصالحة للاستخدام. كما سبب نفاد المواد الغذائية والأدوية التي حملها معهم النازحون إلى محاولة الكثيرين منهم التوجه لناحية عامرية الفلوجة؛ إلا أن الميليشيات الموالية للحكومة منعتهم من الدخول. وبعد مناشدات وضغوطات من وجهاء المنطقة، استجابت القوات الحكومية لدخول تسع شاحنات فقط من المساعدات.
كارثة انسانية
وتتزايد أعداد النازحين، مما ينذر بكارثة إنسانية؛ حيث منعت حكومة بغداد أي منظمة مدنية من تقديم المساعدات، ومع استمرار منع دخولهم؛ قوبل الأمر بالاستهجان والاستغراب من موقف الحكومة.
توجهتُ إلى هناك لأنقل لكم بالصور ما يعانيه النازحون السنة ممن يسكنون العراء على بعد بضع كيلومترات من العاصمة؛ حيث انتقد أحد النازحين موقف الإعلام العراقي الذي وصفه بالمقصود والمتغافل عن وضعهم، كما هو حال أغلب القنوات العراقية الحكومية أو شبه الرسمية في تجاهل معاناتهم وما يحدث من عرقلتهم ومنعهم من دخول العاصمة؛ الأمر الذي وصفه نازح آخر بقوله: “أصبحنا سكانًا من درجة ثانية أو ثالثة، ويستمر إعلام الحكومة بتحشيد الرأي العام ضدنا وإظهارنا بمظهر حواضن إرهابية لا تستحق العيش في العراق“.
ومع دخول القلة من النازحين، ارتكبت مآسٍ وانتهاكات أخرى بحقهم؛ حيث قامت ميليشيا “صولة العباس”، عبارة عن ميليشيا شيعية موالية للحكومة وتابعة للمرجعية في النجف، في صدر اليوسفية (بحزام بغداد)، باحتجاز عشرات العوائل النازحة من الأنبار ومنعها من دخول بغداد. ومن ضمن الانتهاكات: تعدى العقيد عباس (التابع للفرقة 17) بالضرب على النازحين بجسر “بزيبز”، وإلى الآن لم تتم مساءلته أو محاسبته، كما أن استمرار الاعتداء على النازحين من قبل القوات المتواجدة هناك بسبب التدافع فيما بينهم أدى لوفاة أحد الأطفال.
تعج صحراء الأنبار بالسيارات المتوجهة إلى “بزيبز”، على مدى مسافة طويلة؛ نظرًا لأن الطرق مغلقة؛ مما يضطرهم إلى المبيت بالعراء تحت الحر؛ فتتصاعد حالات وفيات الأطفال وحالات إغماء للنساء.
عند معبر بزيبز تُروى القصص؛ حيث وقعت المئات، بل الآلاف، من المآسي. ففي منطقة صحراوية، يعبر أهالي الأنبار في الحر الشديد، وينفد مالديهم من مئونة، ثم يحتاجون إلى العلاج فلا يجدونه.
حتى (الحيوان) عاش جزءًا من هذه المعاناة؛ فقد استوقفتني هذه (البقرة) وأخذت أفكر في ثباتها بنفس المكان؛ فوجدت أنها لم تقف اعتباطًا؛ بل هي توفر الظل لرضيعها الصغير وتدعه خلفها تحميه من شدة الحر؛ فكانت أرحم بصغيرها من الحكومة العراقية والميليشيات والساسة الذين تركوا عشرات الآلاف من النازحين في الحر والجوع وفي لهيب الشمس الحارقة.
الموت هنا .. وهناك
“الموت في بيوتنا بعز وكرامة أهون من الموت بذل من الجوع والعطش في العراء“، هذا ما قالته عدة عوائل أنبارية بعد أن عادت أدراجها إلى مدنهم في الأنبار؛ حيث جعلت ممارسات الحكومة الطائفية أهالي الأنبار بين خيارين (السيئ والأسوأ): فإما العودة إلى بيوتهم، حيث الحرب والقصف الحكومي العشوائي غير المدروس الذي لا يفرق بين مدني ومسلح، وإما البقاء في العراء على أطراف بغداد.
إن ما يحدث للعراقيين السنة هو نكبة وكارثة إنسانية تضاف لكوارث النزوح التي يعيشها إخوانهم في المحافظات الأخرى؛ بعد أن أصبحوا ضحايا بلا مأوى، يلتهمهم الجوع والعطش والاعتقال والقتل والتشريد.
يقول أحد النازحين من منطقة البوفراج في الرمادي: “لو كنا من اليزيديين أو المسيحيين لتحرك العالم ونقل معاناتنا واستقبلتنا الدول وفتحت لنا الحدود“؛ محملًا ما أسماهم “أشباه الرجال” الذين يدعون قادة وساسة المسؤولية عن هذه الكوارث “فقد ماتت ضمائرهم الإنسانية وجردت قلوبهم من الرحمة، ولم تعد تنبض بشيء من الألم والحرقة تجاه هذه الفئة ومعاناتها التي تدمي القلب وتزداد يومًا بعد يوم؛ بل وأصبحوا يسعون لمصالحهم ويعيشون على ألم غيرهم، بما فيهم المؤسسة الدينية ورموزها الذين انتهجوا الصمت والتغاضي عما يحدث. ولم نر أحدًا من أصحاب الضمائر الحية الذين يدعون الإنسانية يشعر بهؤلاء النازحين ويطالب بحقوقهم ويتألم لألمهم لرفع الكارثة التي ألمت بهم، ولا من يسعى لمد يد العون والمساعدة لتخفيف شيء من معاناتهم وتبديد ألم الظروف التي يعيشونها؛ فما تراه اليوم من مشهد للعوائل النازحة من أطفال ونساء ورجال أجبروا على ترك ديارهم قسرًا، لا يسر، ومأساة تنفطر لها القلوب؛ مما ينذر بكارثة إنسانية ستحصل وسيغض العالم بصره عنها، ولم نر من تباكى على كوباني يتباكى على الأنبار“.