في الربع الأخير من القرن المنصرم كان من المخاطرة الولوج بحديث يتناول ما يدور في البلد من أحداث سياسية، وما فتئ أهلونا -من باب الحرص على سلامتنا- يمنعوننا من ذلك بشكل او بآخر، وكان والدي يقول دوما: (إبني السياسة بحر.. عوفها لاتغرك بيها). ولأني كنت مجبرا مع باقي العراقيين على الإبحار (وراء العيشة فقط) لم يتسنَّ لي الخوض في لج بحر السياسة لامن قريب ولا من بعيد، إلا بعد الانفتاح والانفراج وماصاحبهما من مقبلات اندلقت على صدور العراقيين دفعة واحدة عام 2003. ولكن..! وأظنه لسوء حظ العراقيين وليس حظي فقط ان (الانفراج) كان (أكثر من180درجة) وما زاد عن حده ينقلب ضده، فغرقنا جميعا في لج بحر جديد هو بحر أمواجه ساسة غير الذين أخافنا منهم والدي، وقادة غير الذين خبرناهم واعتدنا أساليبهم وطبائعهم على سلبياتها. فالساسة الجدد لايأبهون بنقد بناء او هدام، كما أنهم يتقبلون السباب والشتائم و (رحمات الوالدين) برحابة صدر منقطعة النظير، وقد كنا نظن بادئ الأمر أن هذه هي الديمقراطية بعينها، إلا أن الأمر ليس كما ظننا أبدا، فهؤلاء الساسة يعومون في بحور غير التي نعهدها، وسواحلها بعيدة كل البعد عن المواطن الذي نأوا بأنفسهم عنه أيما نأي، وماعادوا يسمعون نداءاته واستغاثاته، بل هم يعدونها “لغوا وكذابا”..! فأبعدونا عن السياسة أكثر مما كان يبعدنا عنها آباؤنا المساكين.
وهم قطعا -السياسيون- ليسوا سذجا او على نياتهم ليتركونا بحال قد نتنبه يوما وننتفض على واقعنا الذي أوصلونا اليه، بل راحوا يتحايلون علينا بمعسول الكلام.. ويغدقون علينا شفيف المصطلحات والآمال البراقة، والتي كانت في زمن الطاغية تدخل من اذن وتخرج من أخرى، أما في زمنهم فهي لاتدخل أي أذن منهما على الإطلاق، ذلك أنها مسميات عديمة النغم واللون والرائحة والطعم والجدوى. سأسرد بعضا منها بتعريف مبسط لها:
– (عنق الزجاجة): هو مكان وهمي يأبى السياسيون الذين اعتدنا السير خلفهم إلا ان يضعونا فيه، حيث يمنّون علينا بأنهم أخرجونا من قعر الزجاجة متفضلين.
– (حلحلة الأزمة): هي عملية تخدير، يكون حينا موضعيا وأغلب الأحيان كليا، يكثر قادتنا إجراءها على أكثر من مريض يصل عددهم في العراق الى أكثر من ثلاثين مليون مواطن في نفس الآن والآنية.
– (شد الأحزمة): وهو مرحلة متقدمة من الحلحلة آنفة الذكر، يبلغ فيها السيل الزبى، ولكن ليس للمواطن حول ولا قوة فقد ابتلعهما الساسة وأرخوا أحزمتهم عن آخرها.
– (نهاية النفق): وهو ما يحصرنا الساسة بداخله بعدما (يوكع الفاس بالراس) إذ لامفر من المصير المحتوم.
– (الغد المشرق): وهو حلم غير قابل للتحقيق بتاتا، فهو لاينتمي الى احلام المنام، ولا الى أحلام اليقين. يستخدمه الساسة حين يفلسون من أمسهم ومن يومهم.
– (نزع الفتيل): وهو أكثر مصطلح يستعيره السياسيون (والعياذ بالله) ويصلح لعدة مواضع، ففي الازمات يستخدمون عبارة (نزع فتيل الأزمة). وعند اشتداد القنا وانزلاقهم بمعركة يستخدمون عبارة (نزع فتيل الحرب).
وهناك فتنة يسمونها الفتنة الطائفية.. عادة مايثيرونها متعمدين ثم يتولون أمر إخمادها، فيقولون؛ (نزع فتيل الفتنة). وليتهم يقفون عند هذا الحد، فالخوف كل الخوف من تماديهم بنزع (فتايل) أخرى لايتحملها العراقيون، بعد أن ضاقت بهم مداخل الفرح و “مخارج” السرور..!