نعيش هذه الايام لحظات عصيبة من تاريخ العراق لحظات يقف وادي الرافدين بعظمة تاريخه على مفترق طرق مابين ان يكون او لايكون لحظات تخترق فيه قطعان التنظيمات الارهابية المسمة بداعش مدين الانبار في محاولة لطرق ابواب بغداد وممايزيد من الطين بله تضارب المعلومات التي تصل الى المواطن والمقاتل فبعد ايام من الحديث عن الاستعداد لتحرير الموصل يفاجاء الجميع بالاخبار عن سقوط الرمادي وبعد اقل من اربعة وعشرون ساعة من اعلان رئيس الوزراء عن محاصرة قطعان داعش يفاجاء الجميع بسقوط المجمع الحكومي في الرمادي . مما يستدعي دراسة الاستراتيجية العسكرية التي تتبعها تلك التنظيمات بحيث تتمكن من اختراق المواقع التي تحميها قطعات الجيش العراقي والشرطة المحلية في محاولة لفهم الاحداث التي ادى تضاربها الى زيادة البلبلة في الروح المعنوية للمقاتلين والسكان الامنين . ومحاولة الاجابة عن السؤال لماذا يهزم جيش يمتلك كل مقومات القوة والتفوق في الجو والبر أمام حرب عصابات أنهكته وأرغمت قياداته على ترك مواقعها والهروب تاركين اكداس من الاعتدة والاسلحة الثقيلة؟ وكيف نجحت جحافل الحشد الشعبي في كسر قطعان داعش في حين فشلت القوات العسكرية النظامية ؟ في مجال العلم العسكري فان الاستراتيجية هي علم وفن يختصان بإدارة الحرب والاستعداد لها وقيادة الصراع المسلح مع العدو وتوفير الظروف المناسبة لخوض هذا الصراع. اما في مجال فن الحرب فهي جزء مكون من فن الحرب يختص بدراسة المسائل النظرية والتطبيقية المرتبطة بإعداد القوات المسلحة للحرب والتخطيط لها وخوضها، وهذا هو المفهوم الشائع المعروف بالاستراتيجية العسكرية.في مجال التطبيق العسكري: هي نوع من التطبيقات العسكرية العالية المستوى كاستراتيجية الهجوم المعاكس واستراتيجية الدفاع المرن وغيرها.
من مراقبة تطور عمل تنظيم داعش منذ انطلاقته للعمل في الساحة العراقية على يد الزرقاوي ومجموعته نرى ان التنظيم اعتمد في عمله على ثلاثة مراحل هي :
1. الدعوة :والمراد بهذه المرحلة نشر أفكار الجماعة ، بالأساليب التي يظن جدواها بطابع السرية وفي هذه المرحلة تستخدم الأماكن والضواحي المهيئة للسرية، البعيدة عن السيطرة الأمنية.والهدف من هذه المرحلة جذب عناصر جديدة للدعوة، حتى تصل إلى مرحلة التمكن والإعلان عن الجهاد ضد النظام.وفي هذه المرحلة يكون المنتسبون إلى الجماعة بعيدين عن أساليب العنف، مكتفين بمجرد الدعوة، بهدف الجذب، واستقطاب أكبر عدد ممكن .
2. الاستضعاف :المقصود بهذه المرحلة عند الجماعة غلبة من يرونهم كفاراً حيث يرون أن الهجرة في مرحلة الاستضعاف واجبة، والمقصود بها العزلة عن المجتمع الجاهلي، وعندهم أن كل المجتمعات جاهلية، ولذلك فتجب الهجرة منها، وهي هجرة مكانية، يقصد من خلالها أماكن نائية بعيدة في الوديان والبوادي والكهوف .
3. التمكين :وهي المرحلة النهائية التي تسبق إعلان الجهاد وتبدأ هذه المرحلة بالبلاغ العام، الذي قد يُستجاز لأجله ما يرونه محرماً في فترة الاستضعاف، وقد يستخدمون الخطط التي تستخدمها السلطات للوصول إلى هذه المرحلة ومنها كان تعاونهم مع نظام صدام حسين قبل عام 2003 وعمل البعض منهم مع القوات الامريكية بعد دخول الجيش الامريكي الى العراق .
بعد ان وصلت المجموعة الى مرحلة التمكين بعد عام 2008 بدات باعداد الخطط العسكرية الميدانية والتي بدات من خلال القيام بجولات ميدانية قام بها عدد من الخبراء العسكريين الى المنطقة المستهدفة والمحصورة في المنطقة الشمالية الغربية من العراق وعلى راسهم تماز تيمور باتيراشفيلي الشقيق الاكبر لطرخان باتيراشفيلي المعروف باسم ابو عمر الشيشاني وقد تم وضع الاستراتيجية العسكرية لتنظيم داعش والتي تقوم على ثلاث استراتيجيات فرعية هي :
1. استراتيجية الذئاب المنفردة
2. استراتيجية شد الاطراف وبترها
3. استراتيجية مسك المدن
تتلخص الاستراتيجية الاولى على مبدأء ان كل عضو في التنظيم يجب يجب أن يمثل جيشا من رجل واحد وتعتمد على زرع مايطلق عليه “الذئاب المنفردة ” أو الجنود التائهة داخل المدن والمراكز الحيوية مع التركيز على المساجد والمؤسسات الدينية لسهولة الاختلاط والتأثير باللعب على العواطف الدينية في محاولة لتشكيل جماعات صغيرة العدد أو حتي أفراد يعتنقون الافكار الجهادية ويرتبطون ايديولوجيا بالتنظيم الام ويكونون مستعدين للتحرك بصورة منفردة وتكوين خلايا نائمة وتنفيذ عمليات ارهابية بصورة منفردة مستغلين امكانيات بسيطة، لإحداث ضجة اعلامية، وتحقيق اهداف تخدم التنظيم بصورة أكبر بالاضافة الى التأثير على الروح المعنوية للقوات الامنية والعسكرية الموجودة في المنطقة .
الاستراتيجية الثانية اي شد الاطراف ثم بترها تعتمد على المباديء الاساسية التالية :
1. العمل ضد التخوم و الأطراف و التركيز عليها في العمليات العسكرية والهجمات لما تختزنه من نقاط ضعف بشري و إجتماعي و إقتصادي و أمني .
2. إضعاف و إستنزاف الأطراف و التخوم كمرحلة أولى في إطار إستراتيجية شد الأطراف ثم تصعيد هذه الإستراتيجية إلى مستوى البتر أي السيطرة عليها و التموضع فيها و تحويلها إلى إمارة أو ولاية .
3. إضعاف الأطراف و التخوم سيؤثر أمنيا و سيكولوجيا و عملياتيا على المركز العاصمة و على منظومات السلطة الأمنية و الإقتصادية و الإجتماعية وعلى أدائها .وقد تبنى تنظيم داعش هذه الاستراتيجية و طبقها في شمال العراق ثم طورها إلى مرحلة البتر فسيطر على محافظات الموصل و كركوك والأنبار كما طبقها في سوريا شمال سوريا و شرقها .
الخطوط العريضة للخطة تكشف عن إمكانية توظيف اربعة ساحات في إطار إستراتيجية شد الأطراف .
* الساحة التركية: و خاصة المنطقة الحدودية مع العراق وسوريا لوجود مقومات و قابليات التموضع وقواعد الإنطلاق و العناصر المقاتلة و الظروف الطبوغرافية المثالية للعمل جبال غابات وديان سكان لديهم الإستعداد بسبب تدني الوعي و المستوى الثقافي .
* ساحة الصحراء الغربية ساحة تموضع للسلاح و العناصر المقاتلة ثم الدافعية الإيديولوجية.
* الساحة السورية : تتواجد فيها متطلبات القتال ، الحركات المتضامنة والمتفاعلة والمقاتلين .
* ساحة تلال حمرين : منطقة مناسبة لاتخاذها مواضع للتجمع والتدريب وخزن الاسلحة
بإختصار التنظيم يعترف في خطته إستحالة الإنطلاق في العمل الجهادي من المركز و العاصمة أو الوسط لأسباب موضوعية ولأن الزحف في العمل الجهادي أو القتال ينطلق من الأطراف نحو المركز و ليس العكس
عن أن أهم هذه القواعد هو معسكر تدريب في مدينة ساتيلويو رافا الذي يقع في جنوب شرق تركيا و بالقرب من مدينة تحمل نفس الإسم و يسكنها نصف مليون نسمة و هناك أيضا قاعدة تدريب في منطقة كرمان في وسط الأناضول التي يتدفق عليها المقاتلين لتلقي التدريب قبل التوجه إلى سوريا و العراق أ و هناك معسكر آخر في إقليم عصماني في جنوب تركيا و الذي يستقبل دفعة واحدة ما بين 1000 إلى 2000 مقاتل هذه القواعد و غيرها يمكن أن تستقبل ما بين ثلاثة إلى 5 آلاف قبل أن يتجهوا إلى العراق و سوريا ، الخبير و بناءا على ما تهيأ له و توافر من معلومات أثناء زيارته لتركيا في الآونة الأخيرة يؤكد أن مساحات شاسعة من الأراضي التركية في منطقة الأناضول والمناطق القريبة من الحدود السورية و العراقية تقع تحت سيطرة عناصر تنظيم داعش و جبهة النصرة و الجيش الإسلامي و فصائل أخرى و هي تعادل المساحات التي يسيطر عليها تنظيم داعش في كل من سوريا و العراق . و يكشف أيضا عن وجود طائرات مجهولة تقوم بتسيير الجسر الجوي في الأيام الأخيرة لنقل مزيد من المقاتلين من تونس و ليبيا و جزائريين يعيشون في ليبيا و تونس و مغاربة موريتانيين إلى تركيا ليدخلوا الأراضي السورية والعراقية لتعويض خسائر داعش نتيجة للهجمات الجوية التي شنتها طائرات أمريكية على عناصرها . الغرض من حشد مزيد من عناصر داعش في كل من سوريا والعراق هو تأمين قوة قادرة على الإنتقال من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم في العراق والحفاظ على المناطق المسيطر عليها في سوريا و خاصة في منطقة دير الزور و أبو كمال و مناطق سورية محاذية للمناطق الكردية قبالة مدينة دهوك .
أما الاستراتيجية الثالثة فهي مسك المدن والتي يتم تطبيقها بعد احتلال المدن وتعتمد على زراعة العبوات والقناصين والذين طالما لعبوا دورا مهما في القتال في المدن في اطار تعطيل العمليات وافشالها، وتكبيد القوات العسكرية الخسائر، ويزود القناصون باسلحة متطورة وحديثة دقيقة الاصابة وذات قوة تدميرية هامة، توفرها ايضا المواقع في الازمة والممرات والمخارج الخلفية في المدن، الامر الذي يجعل منهم تهديدا جديا. ما ان استراتيجية زراعة العبوات تعتمد على جهاز هندسي مدرب حيث تشير المعلومات
الى قيام كل عنصر من عناصر التنظيم يوميا بزراعة سبعين عبوة بالاضافة الى تفخيخ الدور السكنية والبنايات مما يجعل اعادة السيطرة عليها شبة مستحيلة او مكلفة بشريا وماديا
ولو راجعنا مجريات الاحداث في احتلال الموصل وصلاح الدين واخير الانبار نجد ان كل العمليات تبداء بتهريب الاسلحة والاعتدة الى الخلايا النائمة التي يتم زراعتها مستغلين وجود مجتمع مؤهل لاحتضان تلك الخلايا والذي يتم تهيئته نفسيا وذهنيا لتقبل وجود تلك العناصر بينها . ان المراقب للوضع في الموصل قبل سقوطها يلاحظ سيطره كامل للعناصر المتطرفة على جوامعها كانت تقوم بتهيئة الذهنية الدينية الموصلية لتقبل وجود التنظيم بينها بحجة الدفاع عن السنة في مواجهة الحكومة (الشيعية ) يساعدها في ذلك فساد اوانعدام الكفأة للقيادات السياسية والامنية التي كانت مسؤولة عن ملف الموصل والتي انصرفت الى التكالب على ابتزاز المواطنين مما خلق بيئة حاضنة للذئاب المنفردة للعمل . وعندما بدأت العمليات العسكرية لم تكن داعش بحاجة الى اكثر من عشرين سيارة بكب ومائتي مقاتل لاحتلال الموصل حيث بمجرد تفجير عدد من العجلات المفخخة امام نقاط السيطرة انسحبت القوات الامنية التي كانت متواجدة في تلك النقاط ثم تتحرك المجموعات النائمة لتتخذ من الجوامع مراكز قيادة لها مستخدمة السلاح والعتاد الذي كان يتم تهريبه امام انظار القيادات الامنية بل وبتسهيل منها مقابل عمولات مادية كانت تدفع للقادة العسكريين . أما في الرمادي فقد تم استغلال الاعتصامات التي استمرت لسنة كاملة مكنت داعش من تهيئة الانفاق والمخازن لتهريب السلاح والعناصر القتالية بحث حدث ولعدة مرات ان يتفاجاء المقاتلين بان تتم مهاجمتهم من الخلف بعد ان يتسلل مقاتلوا داعش من خلال الانفاق التي تم حفرها مابين وادي حران حيث مخازن السلاح الرئيسية للتنظيم الى الرمادي .
ان الاستعراض الذي ذكرناه في ماتقدم يتطلب من القيادة العسكرية ان تنتبه الى ضرورة الاستعانة باستراتيجيات مضادة تعتمد على مباديء الجيل الثالث من الاستراتيجيات العسكرية التي تعتمد المعلومات والتكنولوجيا بدل اساليب الارتال والوحدات الثابته التي تكون هدفا سهلا لهجمات الوحدات الخفيفة المتحركة. ولعل هذا الذي يفسر نجاح جحافل الحشد الشعبي البطلة في كسر قطعان داعش . فقد اعتمدت جحافل الحشد الشعبي على عقيدة عسكرية تنطلق من ايمان عالي بعدالة قضيتها وتقوم على تقديم الكفاءة على العلاقات والولاءت الا الولاء للوطن والعقيدة بالاضافة الى تخففها من الاساليب العسكرية التي تعود الى بداية القرن العشرين والتي اكل عليها الدهر والشرب ومازالت القيادات العسكرية متمسكه بها لانها لاتعرف غيرها . لكن هذا لايجب ان يدفع قيادات الحشد الشعبي الى نسيان حقيقة ساطعه بانهم سوف يتحركون في ارض لايعرفونها وبيئة ان لم نقل عنها عدوه فانها ليست صديقة بكافة الاحوال لذلك يجب الاعتماد على جمع المعلومات الدقيقة قبل الانتقال الى اي منطقة ويجب ان يتم الاعتبار مما حدث في منطقة مصفى بيجي .