قيثار شبعاد تعزف لحن الحياة وانشودة الحاضر والماضي والمستقبل ولا تدري ان تحت قدميها تنتهك الحياة و يسكن المصير والألم والموت ، ليل تناصفه الشمس الشروق فابهر المشهد انامل سيدة الحسن وملكة الحضارات فأوغلت عميقا في بحار الانغام ، داعبت الاوتار انشودة الشروق الليلي وبدأت الانغام تتطاير كقشور الضوء المذهب وتلفح الوجوه بنسائم جنوبية سومرية منقوعة برطوبة النغم الشبعادي السرمدي وعذوبة الندى البابلي فتأبط العقل اجنة الشوق ليحلق في سماء الهيبة والانبهار….
نظرت من نافذة الزمن وفاجئني هيبة الدهر وهو يسترق السمع مأخوذا بشظايا الانغام المتطايرة وهي تنتشر بين النخيل والاشجار تبحث عن موطئ كلكامش في ربضة الاهوار بين القصب والبردي ، و تراخت اجنحتها ومسكت هناك في عالم اسطوري يذهب العقول…..شبعاد رمز الانوثة ومنبع الجمال الصافي فقد اودعتها جدتها حواء اسرار الانوثة والجمال ، جمالها لا يشبه الجمال فهو عصارة للعشق والانبهار المخضب بعبق الحضارات و اجودية الرسل وعتاقة العصور ،استلمت زمامه من صناديق الاسرار السوداء ونثرت تلك الاسرار فوق سطوح الحضارات قمحا وارغفة خبز من تنانير الامهات يغذي الوجوه قبل البطون نظارة واثير عشق خالد ….
ونسيت نفسي في هذا الاثير المحلق فوق ظهور احصنة السماء المتعاقبة الحركة الدؤوب وتهت قليلا حتى ايقظني منظرها المرعب ، تطل من تحت اقدام شبعاد بجسد انثوي كتمثال فينوس ينفر منه الرداء وتعجز الملابس عن اخفاء محاسنه النافرة ، انوثة تقهر النظر وتذل العيون لكن احدا لا يجرؤ ان يحرم ناظريه ويسحبها من عصيان التزود بما ابدع الله ،تصورت ان شبعادا قد عادت الى الحياة من جديد ….بدأت اقارن بين شبعاد المنتصبة خلف القيثارة وشبعاد المتحركة في هذا الاثير الجليل فوجدت الثانية ابدع وارجح بحيوية الحركة واناقة الخطوات وشموخ التقاسيم الانثوية الثائرة ،ايقنت جازما ان شبعاد خالدة ولا غرابة في ذلك لان مسقط رأسها وموطئ قدمها الاول والاخير لا يزال يغلف كيانها و كلكامش قد عاد من رحلته وقد عثر على اكسير الخلود فعلا وبدا التعاطي يأخذ مفعوله عبر العصور من جديد…..
تجمع المارة من ابناء سومر حول المشهد و والقت احدى النساء عباءتها فوق جواهر هذا الجسد الجريئة المتناثرة ، كم كرهت تلك المرأة حينها ، وهممت بخنقها فقد حجبت انوار هذا العالم الرحب ، تضاريس الارض والانثى سيان لا يستطيعهما حجاب ، الاولى تجليها عوامل الطبيعة والتعرية والثانية تجليها نفحة ذكورية محملة بالحب فيبيض الرخام من تحت الركام ويلتمع التبر من تحت الغبار ، ماذا لو اختفت اعمدة الجمال الانثوي تلك ، مؤكد ان تختفي الطبيعة والحياة وتحل القيامة ، وعباءة تلك المرأة علامة من علامات الساعة بالنسبة لي على الاقل…!
وتحركت مكائن الفضول وعجلات التساؤل وانهالت الاسئلة غيثا ربيعيا فاق التصور والمألوف فوق ارض بور لم تشهد قطرات الندى منذ عشرين سنة… لم ينفر شيئا من صمود شبعاد سوى نظرات عينيها الحائرتين و هي تنتقل عبر الوجوه باستغراب وخوف …صوت اجهر ان تحت اقدام شبعاد باب لمنتجع دكتاتوري ، هرع الجميع نحو المصدر وبعد دقائق بدأت الاخبار تتطاير في الجو وتتناثر في الشوارع من هنا وهناك….هزني الفضول وقادتني الغريزة البشرية من يدي نحو حفرة ظلماء دخلتها مع الداخلين تغطي وجهي علامات الاستفهام والتعجب….
ظلمة حالكة تذعر من الضوء وتستحي من نور الشمس ، غرف بمساحة المتر المربع تضم مخلوقات تشبه البشر…. بدأ الناس بكسر الاقفال واطلاق السراح وسادت الفوضى والذعر تلك الظلمة الحالكة في هذا العالم الارضي العجيب ، ولا تزال شظايا الاخبار تتناثر وتتطاير من الافواه هنا وهناك ، جمعت في سلتي ما استطعت حتى بان لي ان هذا المنتجع يضم سجناء منذ عشرين سنه ، بتهم ثقيلة تجاري حكم المؤبد والاعدام ، ركزت تساؤلاتي حول شبعاد وتوصلت انها دكتورة موصلية اخذها الفكر اليساري بعيدا فاطلقت كلمة – كلا – بوجه الدكتاتورية فكان جزاء تلك الكلمة في ذاك الزمن المعتم ، الموت او هذا المنتجع العجيب….احتوتها سيدة العباءة في بيتها شهرا كاملا حتى بانت انسانيتها وبدأت تتذكر اعمدة الحياة وقيل لي انها ابتسمت لأول مرة بعد عشرين سنة…….وما اغلى الابتسام بعد انحسار الظلم…..!