” الشمولية تفترض تصورا للمجتمع يكتفي بنفسه”
إن مسألة الدولة غير مفصولة عن التفكير في العلاقة التي تربط بين السلطة الحاكمة والجماعة البشرية التي تشرف على تسييرها وان الرباط السياسي يتدخل بشكل مباشر في الحياة اليومية للناس ويؤثر في الرباط الاجتماعي للمواطنين على مستوى نمط معيشهم وهدف وجودهم وإذا كان المجتمع البشري يتحدد وفق علاقات المصالح والتوافقات فإن الجماعة السياسية تشتغل وفق نموذج تناسبي للعلاقات البشرية.
من هذا المنظور فإن المجتمع البشري سواء كان طبيعيا أو اصطناعيا ليس حقيقة عرضية للوجود المشترك للناس وإنما شرط تطوير إنسانية هذا الوجود. والدليل أن الإنسان خارج المجتمع هو مجرد مسخ أو شبح وذلك أن الوجود الفردي المنعزل هو يكاد يكون عدم وجود والعلاقة بالأخر عن طريق اللغة وتقسيم العمل والتعاون هي التي تثبت وجوده في العالم وتجعله يتعود على التحرر من الغريزة والسيطرة على الوسط الطبيعي.
لكن لا يمكن الحديث عن الملائمة الإنسانية للسياسة إلا عند الدخول إلى العصر التنويري للكلية الأخلاقية الجميلة وتشكل التلازم التاريخي بين الرباط الاجتماعي والرباط السياسي واندراج العامل الشخصي في المصلحة المشتركة للتناغم الجماعي والجمع بين التوزيع الاقتصادي للأدوار والتكامل الأخلاقي للمعايير.
إن منطق تراكم الثروات هو المساعد على تحقق الحاجات وتقوية الصلابة الاجتماعية والاستقرار السياسي وان حصول خلل في البنية الاقتصادية وقصور في الدورة الدموية للسيولة المالية في المجتمع بسبب الاحتكار والتبييض والغش والمقامرة يؤدي إلى هزات اجتماعية عنيفة وصراع بين الشرائح على النفوذ وتوتر بين الجهات على تأمين مصادر البقاء ونزاع بين الطبقات على السلطة والمواقع القيادية.
غير أن الإشكال الذي يطرح هو حول امتلاك المجتمع المتصالح مع ذاته لحقيقته على الرغم من فقدان السلطة الحاكمة للمشروعية الاجتماعية وضعف أشكال التأييد وفتور ثقافة الولاء وضعف المركز الموحد. إن المجتمع هو حقيقة إشكالية وذلك لاشتباكه بالعوامل الخارجية وارتهانه لطبيعة العناصر الذاتية التي يتكون منها وانقسامه إلى عدة دوائر متعارضة الوظائف والمصالح وحاجته إلى سلطة مركزية ضابطة.
عندئذ يتحكم الرابط السياسي في النشاطات المادية والتعهدات التربوية والالتزامات الأخلاقية للأفراد ولكن الرابط الاجتماعي هو العامل المثبت لسلطة الدولة على الواقع والمانح للسياسة الرسمية الطابع التاريخي ولذلك تحتاج المجموعة الحاكمة إلى رمزية ثقافية تبرر القوانين الترتيبية وتحولها من وضع الإكراه إلى حال القناعة وتحتكر لنفسها العنف وتشرعن استئثارها بسلطة التوجيه والإعلام في الجسم الاجتماعي. على هذا النحو تمثل الدولة مبدأ العقلنة القانونية للمجتمع وينظر إلى القوى الاجتماعية على أنها الشعب الذي تتشكل منه المجموعة السياسية التي تتوجه إليها الدولة بالحديث وتحاول إخضاعها والتدخل في أمرها وتسيير شؤونها بطريقة عقلانية منظمة وتفرض عليها نوع من البرنامج التمديني والمشروع الحضاري. ويحدث أن نجد مجتمع يعيش في حالة قبل ظهور الدولة ويسمى مجتمع ضد الدولة أو مجتمع اللاّدولة وربما نحصل على مجتمع ما بعد الدولة في لحظة الضعف وتفكك السلطة المركزية وضياع هيبة الدولة ولكن يصعب أن نجد دولة في خ المجتمع أو دولة دون مجتمع على الرغم من أن البعض من الدول هي في الأصل موجودة من أجل إلغاء شروط اجتماعية الإنسان وتفكيك جل العلاقات البيذاتية بين الأفراد.
إن مسؤولية الدولة على المجتمع لا تطرح إلا اذا تم منح السلطة الحاكمة من طرف الجماعة السياسية مشروعية التصرف في الشأن العام وتتخذ شكل مؤسسات الرقابة الاجتماعية على الضمير والبدن لذلك نجد في المنطق المانوي للأنظمة الشمولية ذوبان كلي للمجتمع في الدولة والرباط المدني في الرباط السياسي ونجد نزع الأخلاق وخلع الرحمة عن قلوب الحكام واحتكامهم إلى العنف والعنجهية كأسلوب في الضغط على الناس وإجبارهم بالقوة على الخضوع وتطبيق الإملاءات.
كما أن دولة الحقوق هي مصدر التنظيم السياسي للمجتمع وهي المكلفة دستوريا بحماية المواطنين والوقوف ضد أي اعتداء على القوانين في حين يتحمل أفراد المجتمع مسؤولية المحافظة على التراث الثقافي للأمة ويتعهد بصيانة الذاكرة الجماعية والمخيال المشترك من كل نسيان أو محاولة للتهميش.
ينبغي في النهاية أن نمتحن أسباب العزوف عن الاهتمام بالسياسة والشروط التي أتمت من خلالها الدولة الهيمنة على المجتمع والبحث عن وسائل تقوى الجماعات المحلية وتمكن الناس من مواجهة ظلم السلطة. ألا يمتلك المجتمع المدني أبعادا متميزة ومستقلة عن السياسي مثل الثقافي والحقوقي والاقتصادي والديني؟ وألا يمكن توظيف رمزية هذه الأبعاد من طرف المجتمع للتقليص من هيمنة الدولة وأجهزتها السياسية؟ أليس المناداة بتحرير الاجتماعي من السياسي هو نفسه الوقوع في التصور الشمولي للحياة السياسي؟