محسن الخفاجي ، القاص والروائي والشاعر والرسام والمترجم والحالم ، واحدٌ من أجمل صناع الفنتازيا المدهشة بالنسبة لي ، ليس لأنه صديقي الأثري ، بل لأننا نعتبره كائنا فريدا ، ووحده من ظل يحمل على أكتافه البيت الشعري لجرير ( أعلل النفس بالآمال أرقبها ….ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل ) .
محسن أول من فتح لي بوابة الأمكنة الغامضة بسحر فطرتها وبساطتها وأزليتها عندما قلت له في المقهى ذات يوم : أبو علي ترى أي الأمكنة تصلح للبشر أن يكون كاهنا ومعلما في الوقت ذاته ؟
قال : مدارس الأهوار.
ذات يوم صحبني محسن الى مدرسته في أهوار الطار قبل أن ينهي ابده وتقاعده في مدينة على ضفاف الفرات في ضواحي مدينة الناصرية في مدرسة خالد بن الوليد . هناك ارانا محسن المكان الذي فتح له بوابة اخيلته الغريبة التي صنعها بمهارة سردية غريبة في قصصه ورواياته وربما هو الوحيد في مدن الاهوار الذي حول مرسمه والمبني من القصب الى كاليري عجيب من الصور واللوحات ، فيفاجئك حين تدخل صور راكيل وولش والسياب وصوفيا لورين وبرجيت باردو وماركس والبياتي وخورخي بورخيس وبيليه وجون واين ونجيب محفوظ، لتجد أن هذا المكان المسكون بأزل السلالات السومرية يحمل عطر المدن التي سنحت فيها الفرصة لمحسن حين يزورها ويكتب بعض من خواطره الرائعة على ضفاف السين ثم يعود كما يعود السنونو الى عشه في مدرسة نائية كتب في صباحات شمسها الدافئة قصته الرائعة ( شارع الزواج في لكش.)
والأن ذلك المكان المركون في اهوار ناحية الطار بدون تلك الفنتازيا المدهشة التي كان محسن يؤسس عليها احلامه الاسطورية امتلاك الممثلات والشقق الفاخرة في هوليود وكتابة اجمل رواية يكتبها عربي . فقده محسن بلحظة تعطل عضلة القلب بعد محنة سنوات طويلة من محنة السجن في ( بوكا ) القابع في رمال ميناء أم قيصر ، ثم تأتيه الجلطة والشلل ، لكنه كان يحب الحياة بشكل غريب ، بقي يعيش من أجل الجمال والكتابة وصناعة تلك الدهشة الوردية في الفنتازيا التي لا يستطيع أحد صناعتها غير محسن.
والآن محسن البعيد عن ذلك الكاليري المبني من القصب ، صعد بعيدا الى قرى دلمون في الازل العالي ، ولم يبقي لنا من طعم رحيله سوى تلك السفرة الممتعة الى مدرسته القابعة في زاوية جهة الماء والقصب ، ومع دوران دواليب السيارة الدوج الخشبية التي نقلتنا الى مدرسة محسن ، أعيد استذكار مرثيته يوم أتى الاثير ليقول مات محسن ولم يعد هناك في مدرسة بأهوار الطار الكاليري الذي بناه من القصب :
أعتقد ان مدينة بدون محسن الخفاجي ستفقد الكثير من طعمها ، ومن ابداعها ، ومن رغبتها لتكون عاشقة للقمر والقصة القصيرة ومساء تقضيه عشتار على زقورتها او بين ظلال نخيل فراتها الذي ظل محسن الخفاجي يشرب من ماءه ليغذي عشقه الأزلي لتلك البلاد التي كان واحد من مهرة صناعة الحلم فيها وبها وعليها ….
محسن خريش الخفاجي .. الذكريات لم تعد جميلة هكذا اعتقد عندما سيلفك دوار الدواء الذي لم تعتد تناوله ..وهكذا أعتقد عندما أحاول الاتصال بأخيك الفنان التشكيلي المغترب في هولندا كمال خريش الذي لا يبعدني عنه سوى قطار بساعة واحدة ، لكني لا اتجرأ فأنا اعرف إن قلبه يعاني من عطلٍ قديم ..
وعليه ستبقى في دمعتي امنية أن اراك ذات يوم وانت تبتسم كما الوردة على خدي نجملة خجلى…..