23 نوفمبر، 2024 5:19 ص
Search
Close this search box.

ميديولوجيا الصورة وعرض جمالية الوجود

ميديولوجيا الصورة وعرض جمالية الوجود

” ان الصورة علامة تتمثل في كونها خاصية قابلة للتأويل”1
اذا ابتعدنا عن تناول الصورة من جهة تأثيرها في المجتمعات وعن النظر اليها كتقنية لتحريك التاريخ واقتربنا من البحث فيها من جهة اندراجها ضمن أنظمة الاعتقاد والمعارف المنظمة والأشكال الفنية التي تنسج علاقات متقاطعة بين تاريخ الفنون وتاريخ الأديان وتاريخ التقنيات فإننا نتخلى عن التعامل المجسد والمادي مع الصور ونشتغل على التمثلات الذهنية والوقائع الرمزية ونحاول الكشف عن القوانين غير المرئية للمرئي ونطرح اشكاليات حياة الصورة وموتها والصورة بين المنع والاباحة وبين الاتصال والانعزال والأصل في الصور والنسخ المحاكية لها ونبحث في الأساليب الاستعراضية للصورة وتراوحها بين التزيين والمناسبة. لكن ما هي الحاجة إلى الكتابة الفلسفية عن ماهية الصور وما هي أساليب النقد في تطور الصورة وأنواعها؟ وما هي طبيعة الصورة وخصوصيتها؟ وكيف هي قدرة الصورة في التعبير عما هو واقعي وخيالي؟ وهل يمكن تفسير مصدر قوتها وطرق تأثيرها على الحشد؟ كيف تشكلت الصورة؟ وما الهدف من تشكلها؟ وماهي مصادر انبعاثها؟ ومن أين تستمد سلطتها؟ وما علاقة الصورة بأشكال ثقافية أخرى مثل الفن والدين والعلم ؟ وماذا أضافت التقنية الى وظيفتها؟
لقد تشكلت الصورة في زمن أقدم من حيث الوجود التاريخي من الخطاب الشفوي والنص المكتوب وأكثر تجذرا وانغراسا في اللاّوعي والذاكرة والخيال والذهن وارتبطت بالعين والمرآة والطقوس. بهذا المعنى ظهرت الصورة في القرون الوسطى مع المسيحية وأصبحت تاريخ الصورة هو تاريخ الدين وقامت بدور تبشيري كبير وأقامت الدعاية للمعتقدات وبعثت الحياة في الرسالة الايمانية ولكن بعد ذلك اكتسبت الصور حركية اجتماعية واقتصادية وسياسية أكثر من الكلمات والأفكار وتحولت الى وسيلة للاتصال السياسي بالجماهير وقوة إنتاج مادي وفضاء للاستثمار الاقتصادي وتحقيق الأرباح ومراكمة الثروات.
غير أن التقاطع بين تاريخ الصورة وتاريخ التقنية أحدث ثورة رقمية كبيرة نقلت الانسانية من مجردة الاهتمام بصناعة الصور الى عصر الشاشة وكسرت الحواجز وفتحت الأبواب على مصراعيها للتطور المهول للصور وما ترتب عن ذلك من تغيير جذري في حياة الناس بتحويلها الى فضاء مرئي معروض للعموم وفي نمط رؤيتهم للعالم ولبعضهم البعض وأدخل ذلك بلبلة في منزلة الثقافة التقليدية والتراث والعادات.
يشير ريجيس دوبري من منظور ميديولوجي الى عصور ثلاثة للنظرة الى العالم وبروز وسائط ثلاثة:
– اللوغوسفير أو عصر العقل ويمتد من عصر الوثنية الى زمن بداية الكتابة واكتشاف المطبعة ( صورة ذهنية غيبية) وترتب عن ذلك منع بعض الأديان للتصوير. في هذا الاطار تقيم الصورة جملة من العلاقات مع الوثن والتعالي والأبدية والموت والكلمة.
– الغرافوسفير أو عصر الفن و النص والتدوين ويمتد من اكتشاف المطبعة الى اختراع التلفزة الملونة وتشكلت ( صورة فنية) وترتب عن ذلك الاستهلاك الشخصي للأثار الفنية. في هذا الاطار تقيم الصورة جملة من العلاقات مع التثميل والطبيعة والخلود والنص والمكتوب والذات.
– الفيديوسقير أو عصر الرؤية وزمن الصورة في الزمن السمعي البصري ويمتد الى حد الآن ( صورة افتراضية) وترتب عن التحويل الرقمي التمحور حول المرئي مع نفي الطابع المادي والتعامل مع الصورة كنبضات كهرطيسية. في هذا الاطار تقيم الصورة جملة من العلاقات مع المحايثة والتقنية والبث الجماهيري والآلة والحاسوب والشاشة والقمر الصناعي.
ما يلاحظه ريجيس دوبري أن ظهور وسيط جديد لا يلغي دور الوسيط القديم بل يكمله ويصوبه. وبالتالي لقد أبدعت البشرية مجموعة من الآليات التي تتدخل في انتاج الصور وهي كالآتي:
– الشبح، الطيف ، والصنم /النظرة، النفس الأخير ، القاء نظر
– السيمولاكر، الخيال، الممثول/الأيقونة، اعادة احياء ذاكرة شخص آخر
– التمثل، اعطاء صورة ذهنية لكل ما يتم ادراكه حسيا
في هذا المستوى انتقل الانسان بالصورة من الصنم الى الفن وحولها الى قناة ناجحة في الاتصال.لقد أدى التطور التقني الى التحكم في الصورة وصاغ نظرية جديدة في الحكم تستبدل الاكراه الجسدي بالتحكم في الرأي العام عن طريق التحكم في نقل الصورة. كما أن الصورة الفاتنة صارت تسحر العيون الساذجة وتمنح القوة الى الأنظمة الرمزية لكي تفرض سيطرتها على الشعوب وتحولت الصور الى أداة تحكم وايديولوجيا هيمنة الى جانب سلطة المال والعسكر والسياسة وبالتالي صارت الصورة منفلتة وهاربة وتؤثر بقوة عجيبة على مشاهديها وتسعى الى توجيههم وانتزاع الثقة منهم وترهيبهم من جهة ولكنها تمنحهم السكينة والأمن وتدفعهم الى الشعور بالبهجة والاقبال على الحياة من جهة أخرى.
هكذا تلعب الصورة دورا فعالا في تقدم الحضارة وتحولت الى وسيط للتواصل بين الثقافات وساهمت في بناء المجتمعات المعاصرة على أسس متينية وربطت علاقة بالمكان والزمان وتحولت الى مقياس للتحضر والحداثة وبالتالي أي تفكير في الغاء الصورة ومنعها يؤدي حتما الى شطب الحضور في العالم . لكن هل تمتلك الصورة منزلة الأنطولوجية؟ وما الفرق بين الأصل والنسخة في وجود الصور؟
الصورة picture هي التي تعرض نفسها بنفسها على نحو كامل بواسطة الاطار الذي يؤطرها ولا تعتمد على التوسط بل تنسجم مع التجريد وتمتلك وجود قائم الذات وتخضع لتقنيات التصوير الشائعة. وترجع سيادة الصورة الى انتصابها بذاتها وتكونها من بنى موحدة ومغلقة وتتمتع بالتناغم وتتمتع بعلامات خاصة.
غير أنه تمت اضافة الصورة المتخلية وصار بالإمكان الحديث عن صورة الصورة image of picture. وتخطى مفهوم الصورة مفهوم العرض وطرحت مسألة اختلاف النسخة copieعن الأصل في الصورة وبالتالي علاقة الصورة بعالمها وتراوحها بين لعبة العرض المضاعف والتمثيل والمحاكاة واعادة الانتاج.
لقد أظهر غادامير التناسج الأنطولوجي بين الأصل والمعاد انتاجه ورأى أن الصورة كأصل تقاوم كل اعادة انتاج واعتبر الشيء المستنسخ له وجود مستقل عن نسخته الى حد أن الصورة تبدو أدنى أنطولوجي مما تمثله. كما أن العرض هو صورة وليس استنساخا ولكن يجب التمييز في نمط وجود الصورة بين طريقة ارتباط تمثيل ما بالأصل وطريقة ارتباط نسخة بالأصل. ليست النسخة من حيث الجوهر عند غادامير أن تكون شبيها بالأصل بل أن تعمل على توسط ماهو مستنسخ وتفقد وجودها المستقل بعد ذلك وتتحول الى صورة نموذجية تعكسها المرآة وتتلاشى ولا يوجد منها سوى مظهرها عند الشخص الذي ينظر في المرآة. لقد تحول النتاج الحيzoö-;-n عند شخص الى صورة . غير ما تقوم به المرآة هو جعل ما تعكسه مرئيا من قبل الشخص مادام ينظر اليها فيرى صورته أو صورة شيئا آخر ولا يتعلق الأمر لا بأصل ولا بنسخة. على هذا النحو تتشكل في هذا المستوى الصورة المرآوية التي تختلف عن النسخة وعن الرسم التوضيحي وتظهر الكيان نفسه فيها.أما النسخة تعمل كوسيلة وتفقد وظيفتها عندما تتحقق الغاية منها وتطمس نفسها عندما تعيد انتاج شيء معين. هكذا تشبه النسخة أصلها اذا قصدنا التمييز والحكم والمقارنة ولكن وظيفتها هي التدليل على ما يستنسخ.
ليس مقدر على الصورة أن تطمس ذاتها فهي ليست وسيلة من أجل غاية بل المهم فيها هو كيفية عرضها للشيء الممثل ولذلك تعكس المرآة صورة مرآوية وليس نسخة ولا يمكن أن تنفصل عن حضور الممثل.
– سحرية الصورة تقوم على هوية الصورة والمصور وعدم تمايزهما وبالتالي يبرز الطابع القدسي للفن.
– التصور الجمالي عن الصورة يظهر من خلال التمييز بين التمثييل بحد ذاته عن الشيء الممثل.
– أنطولوجيا الصورة ترتكز على تأكيد الصورة وجودها الخاص باستقلالية عن وجود مصورها وعما هو ممثل وبالتالي تنحصر في وجودها كعرض.
– علاقة الصورة بالأصل تختلف عن علاقة النسخة بالأصل اذ يظل العرض أكثر من النسخة ويرتبط بالأصل الذي يمثله ولا يحمل أي معنى سلبي ولا يتبر وجودا ناقصا بل واقع مستقل
– التمثيل صورة وليس الأصل فسه ولكن عرضه هو حدث ينتمي الى صميم وجوده نفسه وكل عرض هو حدث أنطولوجي ينمو وجود الممثل ويكون مضون الصورة فيض للأصل.
– التكافؤ في العلاقة الأنطولوجية بين الأصل والنسخة هي أساس الواقعية الأنطولوجية للصورة.
– ان التمثيل هو نمط وجود الصورة وبالتالي طريقة العرض هي التي تحدد الصورة التمثيلية.
لكن ماهو الأساس الأنطولوجي للمناسبة والتزيين Décoration في الصورة الفنية؟
الصورة ليست علامة وليست رمزا بل في منتصف الطريق بين الاحالة أو التدليل التي هي ماهية العلامة والاستبدال الذي هو ماهية الرمز ولذلك يجب أن تعلن عن نفسها وتحتل مكان الصدارة بوضوح.
الصورة الشخصية هي شكل فني يختلف عن النموذج بطبيعة المناسبة التي تقصدها ، فالصور تحتوي على رباط لا ينفصم بعالمها ولا تعرض نفسها وتكون قابلة للمشاهدة الا حينما تمثل مشهدا من الحياة.
الصورة الشخصية ليست وثيقة تاريخية تتضمن شغلا يخص الذاكرة بل تتحول الى عمل فني اذا ما قصدت مناسبة قامت بعرضها بل ان في الصورة دلالة تؤسسها اشارة غير محددة الى شيء معين. ان كل الأعمال الفنية هي مناسبات اكتسبت صورا وأشكالا ما يزال المعنى الكلي منه غير مكشوف وغير مفهوم.
” ان العمل الفني يجرب تحديدا متواصلا لمعناه انطلاقا من مناسبة عرضه”2 ، وبالتالي يوجد تكافؤ أنطولوجي للصورة مع عناصر المناسبة التي تعرض فيها. لكن ما دور التزييني في التمييز الجمالي للصورة؟ وكيف يتعزز الوجود الجمالي في الآثار الفنية بواسطة الأداء وعرض الصور والتزيين ؟
ان مفهوم التزييني لا يكمل الوجود الجمالي للشيء وإنما يتحول هو في حد ذاته الى وجود جمالي مستقل. يحتاج مفهوم التزيين الى تجاوز تناقضه مع مفهوم الخبرة الفنية وأن يتأسس في البنية الأنطولوجية للتمثل ويتحول الى أحد أنماط وجود الأعمال الفنية ويستعيد الأصالة القديمة التي تجعل منه الجميل في حد ذاته. على السبيل المثال يشكل الزخرف علاقة بما يزينه ويقوم بتنميق الشيء المزين ولكن يمتلك أيضا وجود جمالي مستقل يضفي على صورة المكان الرونق والحلية ويشبه دوره ما يؤديه الوشم بالنسبة الى الجسد.ننتهي الى تأكيد الطابع الاحتفالي بتجارب الفنانين الابداعية وذلك بالمشاركة والاستمتاع وتخليد الذكرى وصيانة التحف الأثرية وزيارة المتاحف والإقبال على المهرجانات والتركيز على البعد الجمالي للوجود. وبالتالي” ان تدمير الأعمال الفنية اعتداء على عالم محمي بقداسته”3 ، فمن أين يستمد الفن هالته الجمالية؟
من المألوف أنه مهما كان مقدار التحول والتشوه الذي يحصل للأثر الفني أثناء عرضه فإنه مع ذلك يحافظ على هويته وقيمته بما أن العرض المشوه هو عرض للبنية وتكرار للأصلي الذي يعبر عن أصالة العمل الفني نفسها. هكذا لا يحضر المتفرج الذي ينتمي الى لعبة الفن ولا يشارك في العمل الفني استنادا الى مفهوم الذاتية ولا يدير عملية المعاصرة بواسطة الوعي الجمالي بل يتمتع بخاصية الوجود خارج الذات في امكانية ايجابية للفعل. في هذا السياق يميز غادامير بين متفرج يكرس حياته كليا من اجل الفن ومتفرج يقبل على الأعمال الفية بدافع الفضول ويحدث أن ينجذب نحوها بشكل ينسيه نفسه ولا يعود عندئذ قادرا على الكف عن متابعتها. لكن بأي حال تنتمي المعاصرة لوجود الأثر الفني ذاته؟
والحق أن المعاصرة تمثل جوهر الحضور بالنسبة الى العمل الفني ولا تتزامن مع الوعي الجمالي ولا تمثل أحد موضوعات الخبرة الجمالية بل الخاصية الشكلية للجدة والاختلاف المجرد والشيء الجزئي الذي ينجز الحضور الأقصى الذي يتحول مهمة تعهد الى الوعي الجمالي وانجاز مطالب بإتمامه والارتقاء به.
ان الوجود الجمالي للعمل الفني يظهر مفهوم اللعب عامة والتحول الى بنية تميز لعب الفن وتكشفه في عرض أو أداء يكمل وجود ما يعرضه هذا العمل وان الزمانية الخاصة بالوجود الجمالي هي حيازتها لهذا الوجود في عملية عرضها وتحقق هذه الخاصية في عملية اعادة الانتاج التي تجعله ظاهرة فريدة ومختلفة.غاية المراد من العرض الفني بواسطة الصور عند غادمير هو أن التمييز الجمالي هو الذي يعتني بالكيفية التي يكون فيها عملا ما جميلا. فلا وجود الفنان المبدع نفسه ولا وجود لمؤدي العمل ولا وجود المتفرج المشاهد ولا يتمتع بأي شرعية قائمة بذاتها بوجه وجود العمل الفني نفسه وحقيقة أن الوجود الجمالي للعمل الفني تعتمد على كونه حاضرا لا تدل بصورة ضمنية على نقص وافتقار للمعنى المستقل بل تنتمي الى ماهيته وتترك الفرصة للمتفرج لكي ينى ذاته ويتوسط معها وينخرط في لعبة الفن وينتزع من ذاته حجبها ويعيد اليها وجودها الكلي. جملة القول أن النمط الأنطولوجي للوجود الجمالي هو حضور مطلق وان العمل الفني متطابق مع ذاته في كل لحظة ينجز فيها هذا الحضور. ولكن علينا أن نعيد طرح السؤال: ما الذي يثبته المتفرج عند انخراطه في لعبة الفن؟

الاحالات والهوامش:
[1] Régis Debray, Vie et mort de l’image , une histoire du regard en occident, édition Gallimard, Paris, 1992.p58.
[2] هانز جورج غادامير، الحقيقة والمنهج ، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح ، دار أويا ،طرابلس ، ليبيا ، 2007، ص229.
[3] هانز جورج غادامير، الحقيقة والمنهج ، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، مصدر مذكور، ص233.
المصادر:
Régis Debray, Vie et mort de l’image , une histoire du regard en occident, édition Gallimard, Paris, 1992.
هانز جورج غادامير، الحقيقة والمنهج ، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح ، دار أويا ،طرابلس ، ليبيا ، 2007.

أحدث المقالات

أحدث المقالات