18 ديسمبر، 2024 6:04 م

الجغرافيا والفيلم الهندي

الجغرافيا والفيلم الهندي

ينشر شهر مايو في مدينة طنجة مناخا هادئا لا يودع ربيع ولا يستقبل صيف ، حيث يتهيآ الناس لمجيء أيام قادمة تكون فيها رياح الشرجي القادمة برطوبتها الثقيلة من جهة البحر والمحيط فيتبدل مزاج الناس وتصبح خواطرهم الجغرافية عن ليل مدينتهم خانقة فلا يتحملوا ذلك ويفضل بعضهم الذهاب الى تطوان الى القصر الكبير والأكثر قدرة في المال يحمل حقائبه الى مراكش أو الرباط .
دائما عندما يحط طائري في مدينة ما يعود به حنينه الى المهنة والاختصاص الذي كان يسترزق منه ، عندما كنت معلم جغرافيا في مدرسة نائية في ريف الأهوار ، هذه المهنة الجميلة التي تؤدي فيها دورا تبشرياً إذ تفتح امام صغار نوافذ دهشة تخيل المدن لم يروا من العالم سوى وجوه اصدقاءهم والدواب السارحة وغناء رجال القوارب ونهار يكون فيه السمك مختبأ تحت القصب لا تمسكه سوى الفالة ، وعندما تأسست المدرسة هنا ، أتت اليهم معارف اخرى عن عوالم يشاهدونها بين الكلمات او في وسائل الايضاح ، وحين صحبتهم بسفرة مدرسية الى مدينة اور الاثرية امتلكوا الذهول وصار تعلقهم بالجغرافيا اكثر من اي درس آخر حين قمت بعمل جنوني لم يقم به اي معلم آخر عندما تحملت نفقات تذاكر دخول ثمان تلاميذ الى سينما الاندلس الشتوي في عرض الجمعة الصباحي وكان العرض وقتها فيلما هنديا شهريا يسمى ( سنكام ).
من لحظتها تغير شكل العالم في الرؤوس الصغيرة ، وصار البعض منهم يعتقد أن الجنة هي شاشة السينما ، وان الطيران الى السماء هو ركوب سيارة الفولفو الخشبية والتجول فيها بشوارع الناصرية.
لقد بدأت الجغرافيا تغير في شكل الاحساس والذائقة ، مثلما يغير الشرجي الجغرافي في طنجة طبائع الناس ولكن شرجي الاهوار لا يغير في طبائعهم شيئا ، ربما لأن تطوان أو مراكش ليست قريبة منهم حتى يذهبوا ليحتموا بمناخهما .
هذا التغير الجغرافي في ذاكرة الاطفال اصبح مصيبة اشتكى فيها الاباء من أن ابناءهم قد تغيرت طباعهم بعد تلك السفر المدرسية حتى ان احد الاباء أتى يوما ليقابل المدير في شكوى ان ولده ( ريحان) صار يغني بالهندي ولم يفهموا منه شيئا .
كتم المدير ضحكته في بطنه وقال للرجل :لاعليك يا ابا ريحان سأعالج الأمر واعيده اليك وهو يغني بالطور المحمداوي.
وحين تحرينا عن الامر وجدنا أن ريحان في حضوره للفيلم حفظ مقاطع من تلك الاغنية التي يؤديها بطل الفيلم راج كابور وهو فوق الشجرة فيما بطلة الفيلم فاجنتي مالا تسبح في النهر وهي لا تعلم . واتذكر كان مطلع الاغنية يقول ( ميري مرتي كمنا ..ميري مرتي كمنا …)
وتلك الاغنية كانت اول اغنية يؤديها طفل من الاهوار في اول حفل تقيمه مدرستنا بمناسبة ثورة 14 تموز .
تعود الاب على تعلق ولده ، واقتنع انه سينساها ذات يوم .
لكن ولده ريحان خيب ظن الأب ولم ينسى الاغنية ، بل ذهب ليفتش عنها في بلدها ليحفظها كاملة وذلك يوم كبر الولد ومات والده وتطوع في البحرية وذهب في دورة عسكرية الى (مومباي ) وهناك استطاع ان يسمع الاغنية كاملة ويحفظها ويعرف معناها ويهديها الى روح ابيه حين اداها كاملة امام رفاقه في الدورة في قاعة هجوعهم بعد التدريب…!