في العامية نسمي الناي ( الماصول ) وربما هو ارخص ألة تباع أيام كنا صغارا ونسير خلف بائع النايات وهو يعزف بنايٍ مصنوع من قصبة ، وكان جارنا طيب الذكر (عبد الرزاق طلب مسير ) من البارعين في عزفه وصناعته ، وعندما وقع في الأسر ايام الحرب العراقية ــ الإيرانية كان الناي من بعض سلوته لقتل الوقت والحنين الى زوجته وأطفاله ، وربما منه سمعت عبارة :حتى تعود لروحك لا تحتاج سوى الى قصبة وجلسة تنعزل فيها ثم تبدأ العصود على أرائك الغيوم.
كانت هناك الة من ذات مجموعة تصنع من قصبتين تثبت بقطعة من ( القير ) ولكن صوتها ليس بجمال ما يرسله الناي المفرد وتسمى ( المطبك ) واكثر ما تستخدم في الرقصات التي يحتفى بها في الاعراس والتجمعات البشرية المحتفلة اثناء الاعياد ، أما العزف في الناي فيحتاج الى هدوء ومكان تكسوه هيبة الصمت والعزلة فيأتي النغم ساحرا برؤاه الرومانسية.
ويوم باشرت في مهنة التعليم في قرى الاهوار عرفت أن لكل قرية بارعها في صناعة الناي وعزفه ، وربما بسبب عزلة المكان وتوفر اجود انواع القصب كان المتاح الوحيد لآلة موسيقية تصاحب الحنين والوحدة التي يقيضها الرعاة مع جواميسهم وليس بصحبتهم سوى الماء والسماء واطياف بنات عم يعشقونه في رغبة أن يقبل اباءهنَ للاقتران بهن وقتها يبتعد الراعي عن نايه ويدخل في لجة العائلة ومتطلبات الحياة .
ثنائية الناي والقصبة هي هاجس الروح في بحثها عن اللحن وربما الناي اقدم من القيثارة السومرية ، بسبب أن الأنسان البسيط في قرى الأهوار لم تتوفر له الخيوط والخشب والمعدن لصناعة الة يناجي فيها روحه ، فكان اكتشاف الناي هو اكتشاف للموجود الذي يكثر في المحيط الذي يعيش فيه ، وأعتقد أن تأريخ اكتشاف الحاجة الى موسيقى القصبة انه في الليل كان ينصت الى صوت الريح وهو يمر قرب رؤوس القصب النايت وسط الماء فيتحول الصوت الى نغمة جميلة حالما يدخل في جوف القصبة.
وحدها قريتنا لم يبرع فيها الرجال للعزف ، النساء هن بارعات في العزف ، ومنهن ( إنجيمهْ ) التي كانت حين تقرب الناي الى فمها تصمت كل البيوت وتغط في حنين خفي في ليالي الصيف ، وحين يهدأ كل شيء تأخذ ( إنجيمهْ ) ركنها المنعزل على ضفاف الاهوار وهناك ترسل لنا صوت احلام براءتها وكأنها تناجي خواطر أنثى قديمة ربما من ذات سلالتها الروحية والبيئية والعرقية تدعى شبعاد ، وسوية يمازجان لحن الناي والقيثارة فيشدنا حنين غريب يأخذنا فيه الصوت الى التعلق بأذيال أثواب النجوم في محاولة منا للسفر الى المدن البعيدة وتحقيق امنياتنا ، واخيرا انتهى الأمر بصاحبة الناي ( إنجيمهْ ) ان يسكن عزفها قلب واحد من المعلمين ليهيم بها ويخطبها من اهلها ويتزوجها ، ومن يومها لم نعد نسمع عزفها المتفرد ، وساد ليلنا بعض من الفتور ، حتى أن احدهم قال :بدون عزفها الليل يصير باهتاً .
فجأة اتت الي فكرة لأعوض عن تلك اللحظات المدهشة التي تدخلنا إنجيمهْ في لجتها عندما اتيت بشريط كاسيت لأغاني فيروز ، واجمل ما عوض فينا الحنين لناي العازفة المعدية هو الصدى الساحر لأغنية فيروز :
( أعطني الناي وغنْ …فالغنا سر الخلود
وأنين الني يبقى بعد أن يفنى الوجود )……..!