(*)
منذ فترة ليست با لقصيرة، وأنا احاول الاشتغال النقدي، على الاهتمام الذي أولته وتوليه مجلة الثقافة الجديدة في الادب والفن منذ عددها الاول، وقد نوهت عن اهتمامي هذا ، بالعدد الاحتفائي الخاص بأنبثاق مجلة الثقافة الجديدة…الآن، لدي أكثر من محاولة نقدية جاهزة للنشر، وها هي ..الاولى..
قلبي على وطني
الى المناضل السوداني الشهيد : عبد الخالق محجوب
محمد الفيتوري
حين يأخذك الصمت منا
فتبدو بعيدا ،كأنك راية قافلة غرقت في الرمال
تعشب الكلمات القديمة فينا
وتشهق نار القرابين ،فوق روءوس الجبال
وتدور بنا أنت ، ياوجهنا المتخفي
خلف كل سحابة
في الكهوف التي زخرفتها الكآبة
ويجر السؤال السؤال ..
وتبدو الأجابة نفس الأجابة
ونناديك ..نغرس أصواتنا شجرا صندليا حواليك
نركض خلف الجنائز عارين في غرف الموت
نأتيك بالأوجه المطمئنة ، ولأوجه الخائفة
بتمائم أجدادنا ..بتعاويذهم حين يرتطم الدم بالدم
بالصلوات المجوسية الخائفة
بطقوس المدارات ..بالمطر المتساقط في زمن القحط ،
بالغاب ..والنهر…والعاصفة .
-2-
قادما من بعيد… على صهوة الفرس..
الفارس الحلم ، ذو الحربة الذهبية
يافارس الحزن ..مرغ حوافر خيلك فرّق مقابرنا الهمجية
حرّك ثراها
انتزعها من الموت ..كل سحابة موت تنام على الأرض ،
تمتصها الأرض..تخلقها ثورة في حشاها
انتزعها من الموت، يافارس الحزن ..
أخضر، قوس من النار والعشب أخضر
صوتك.. بيرق وجهك ..قبرك
* لاتحفروا لي قبرا
سأرقد في كل شبر من الأرض
أرقد كالماء في جسد النيل
أرقد كالشمس فوق حقول بلادي
مثلي أنا ليس يسكن قبرا
لقد وقفوا ووقفت
* لماذا يظن الطغاة الصغار – وتشحب الوانهم –
ان موت المناضل موت القضية
أعلم سر احتكام الطغاة الى البندقية
لاخائفا ان صوتي مشنقة للطغاة جميعا
ولانادما ان روحي مثقلة بالغضب
-3-
كل طاغية ،صنم ،دمية من خشب
..وتبسمت .
* كل الطغاة دمى
ربما حسب الصنم ،الدمية المستبدة ،
وهو يعلق أوسمة الموت فوق صدور الرجال
انه بطل مايزال !
..وخطوت على القيد
لاتحفروا لي قبرا
سأصعد مشنقتي، وسأغلق نافذة العصر خلفي
واغسل بالدم رأسي، وأقطع
وأطبعها نجمة فوق واجهة العصر..
فوق حوائط تاريخه المائلة
وسأبذر قمحي للطير والسابلة
-4-
قتلوني..وانكرني قاتلي
وهو يلتف بردان في كفني
وأنا من ؟ سوى رجل واقف خارج الزمن
كلما زيفوا بطلا
قلت : قلبي على وطني
مجلة الثقافة الجديدة / عدد خاص / تشرين الثاني – كانون الاول/ 1971
(*)
تتغذى القصيدة على ماحدث في السودان مساء الأثنين 19 تموز 1971،حين أذاع الرائد هاشم العطا بيانا عن قيام حركة تصحيحية في السودان ، من أجل الحفاظ على مسار ثورةمايو 1969، إذ تدخل الرئيس جعفر النميري وابعد من مجلس قيادة الثورة : المقدم بابكر النور والرائد فاروق حمد الله ،ولم يكتف جعفر النميري بذلك فقد شن في تشرين الثاني 1970 حملة شرسة ضد الحزب الشيوعي السوداني وضد الحركة الديمقراطية ومنظماتها الجماهيرية، وبسبب الاوضاع الانقسامية التي بدأت تتفاقم بين القوى الثورية،تمكنت القوى الرجعية من الأستيلاء على مراكز مختلفة تمارس منها تآمر عندما تحين ساعة انقضاضها ..
(*)
الثلاثاء 20 تموز يعقد المقدم بابكر النور الذي كان يتلقى العلاج في لندن مؤتمر صحفيا بصفته رئيس مجلس قيادة الثورة، أعلن فيه ان الحكم المنبثق من حركة 19 تموز التصحيحية سيعتمد على جبهة وطنية ديمقراطية..في هذه الاثناء الحركة التصحيحية، لم تعلن حالة الطوارىء، وأكتفت بأقفال المطارات وحجز عدد من الحكام السابقين كالنميري ورموز الحكم الأخرى..أما البيانات الصادرة من
الحركة فقد خلت من الخطاب التهجمي على رموز السلطةهذا الامر لاقى ترحابا كبيرا في السودان والعالم العربي ، ان الحركة ليست دموية ولكنها للأسف كانت مغامرة مرتجلة أكثر مما هي خطة محكمة، في 20 تموز وزع الحزب الشيوعي السوداني منشورا، يرحب بالحركة معلنا تمسكه بالحل السلمي طالبا من اعضاء الحزب ومؤيده التحلي بضبط النفس، بالنسبة للقائد النقابي الشفيع أحمد الشيخ فقد فوجىء بحركة 19 تموز..
(*)
للرئيس الليبيي معمر القذافي دورٌ غير مشرف، فقد أرغم الطائرة القادمة في صباح الخميس 22تموز القادمة من لندن بالهبوط في ليبيا وهي تحمل على متنها أثنين من قادة الحركة التصحيحية : المقدم بابكر النور والرائد فاروق حمد الله وسلّم القذافي القائدين العسكرين الى جعفر النميري، بعد فشل الحركة..وتم اعدامهما بعد محاكمة صورية..
(*)
في صباح السبت الاسود 24تموز ألقي القبض على القائد النقابي الشفيع أحمد الشيخ ،مساء الاحد 25 تموز في تمام الساعة الحادية عشرة ليلا بدأ الموتورون تحقيقهم مع الشفيع الذي يشغل موقع نائب رئيس الاتحاد العالمي للنقابات ، عضومجلس السلم العالمي، حامل جائزة لينين ،فتحركت قوى الخير والسلام في العالم ، وتحرك رؤساء جمهوريات مطالبين بوقف حمامات الدم في السودان، تزامن ذلك بداية حفلات التعذيب ضد الشفيع بقيادة عضو مجلس قيادة الثورة وزير الداخلية أبو القاسم محمد ابراهيم وزمرة من ضباط وجنود، طالبين منه أخبارهم بمكان سكرتير الحزب الشيوعي السوداني عبد الخالق محجوب..ولم يتوقف التعذيب معه وهو ماثل في المحكمة، حيث الضرب والركل وو..الخ ثم انتزعوه من المحكمة ليستأنفوا تعذيبهم ..فالشفيع لم يخبرهم بمكان عبد الخالق محجوب ولا بمكان اي مناضل او مناضلة..في الثانية والنصف من الاثنين 26 تموز 1971 دوى زئير هز سجن كوبر (عاش كفاح الشعب السوداني ،عاش كفاح الطبقة العاملة) فردد السجناء كلهم هذا الهتاف القسم النداء ، وكانت تلك آخر صيحة لمن سيكون اعلى من المشنقة..
(*)
بعد ألقى القبض على عبد الخالق محجوب،جرى حوار بينه وبين النميري ، نفى محجوب ان يكون للحزب اي مساهمة في انقلاب الرائد هاشم العطا،فالحزب
الشيوعي السوداني،لم يعد الانقلاب العسكري، لأن هذا شأن العسكريين ، لكنه أيد الانقلاب تأييدا كاملا بعد نجاحه وان موقف الحزب يتلخص بالقرار الذي اتخذته اللجنة المركزية بعد 16 تشرين الثاني والذي يقضي بالعمل على الاتيان بحكم أكثر ديمقراطية..بعد هذا الحوار المقتضب، أحيل محجوب الى المحكمة وأعلنت حكومة النميري للأعلاميين ان المحكمة ستكون علنية..تناقلت وكالات الانباء ان المناضل عبد الخالق محجوب كسب الجولة عندما تأجلت المحكمة، ووصفت الوكالات ان جو الغرفة / المحكمة العسكرية كان خانقا في غرفة يتراكم فيها الغبار !!
يدخل رغم كل هذا العناء، يدخل مبتسما عبد الخالق محجوب الى غرفة المحكمة، يخبر الصحفين (لم أبلغ بالمحاكمة إلاّ قبل ساعتين )..المحكمة العسكرية وجهت له تهمة : اثارة المعارضة ضد الثورة، وقلب نظام الحكم ..ينفي محجوب هذه التهم الملفقة قائلا : انني غير مذنب
*هل أنت الامين العام للحزب الشيوعي السوداني ؟
*نعم
*هل لديك أعتراض على المحكمة ؟
*أنت من المعارضين للقوى التقدمية في البلد..وأنا لست ضدك شخصيا إلاّ أني أعتقد أنك لست مؤهلا لمحاكمتي..
هذا الجواب الجريء من المناضل محجوب، لايمكن الموافقة عليه من قبل زمرة النميري..ثم سلّم المدعي العام ورقة فيها اسماء الاشخاص الذين كان الشيوعيون ينوون أدخالهم في الوزارة بعد أقصاء النميري عن الحكم..يهز عبد الخالق محجوب كتفيه ويقول : هذا القائمة لاتعني شيئا فقد كانت هناك قائمة مماثلة عندما تسلم النميري الحكم في آيار 1969..وهذا أمر طبيعي ان تكون لدى اي حزب سياسي قائمة بأعضاء يمكن ان ينضموا الى الحكومة
(*)
رئاسة المحكمة أنتبهت ، ستكون هزيمتها فادحة حواريا مع رجل بمنزلة عبد الخالق محجوب، لذا نظر رئيس المحكمة الى ساعته ،معلنا تأجيل المحاكمة لمدة نصف ساعة..يستغل الاعلاميون ذلك يسأله الصحفيون : هل هذه المحاكمة عادلة؟
محجوب : لم أبلغ بأمر المحاكمة إلاّ عند ظهر هذا اليوم ..أي قبل ساعتين ..منحوني ساعة واحدة لأعداد دفاعي..
بعد هذا السؤال، يصبح ممنوعا توجيه الاسئلة الصحفية الى المناضل عبد الخالق محجوب..خارج المحكمة، سياج من المصفحات والجيش المتأهب
طلب أحد الصحفيين المصريين من محجوب التعليق على احداث الاسبوع الماضي
محجوب : الشعب السوداني تكبد الكثير من الدماء..
(*)
بعد ساعات يعلن راديو أم درمان ان محاكمة عبد الخالق محجوب ستسنأنف بشكل سري..في منتصف تلك الليلة، بعد مضي اسبوع دموي على 19تموز 1971
يأتي الشهداء: يأتي الشفيع أحمد، جوزيف قرنق: وزير شؤون الجنوب
، الشهيد عبد المنعم محمد أحمد،الشهيد عثمان حسين ، محجوب ابراهيم، معاوية عبد الحي، بشير عبد الرزاق ، احمد زيادة ، أحمد الزين الدردالو..من لبنان يأتي فرج الله الحلو، من مصر شهدي عطية الشافعي من العراق : فهد، سلام عادل ،وسط هذه الهالة الخضراء من الشهداء، يتمركز الشهيد عبد الخالق محجوب..
(2)
في هذه القصيدة يخاطب الفيتوري ماجرى في السودان من خلال الشخص المهداة اليه القصيدة ،أعني عبد الخالق محجوب .. حيث تمتد الشخصية وتسمو كمثال أعلى، كفادي مخلّص ..وكل ذلك يجري ضمن أواليات الاندراج في القول الشعري ، تتوزع القصيدة في أربعة مفاصل ..
(حين يأخذك الصمت منا) أي صمت .يعنيه الشاعر هنا؟ هل صمت المناضل عما كان يجري في السودان ؟ صمت الفرد؟ صمت الجماعة التي ينتسب اليها هذا الفرد المميز بقيادته للجماعة ذاتها..والصمت هنا يجترح مثنوية قاسية فمن الصمت الذي يأخذ/ ينتزع الفرد من الجماعة (يأخذك الصمت = منا)..من هذا الصمت ينجبس
البعد —— الغرق
والغرق هنا موجع لأن المأخوذ ليس فردا عاديا بل هو علامة متفردة بعلوها ومستهدفة بسبب هذا العلو (راية قافلة ).. لكن مايجري لن يغلق الباب ولا يطفىء
ضوء آخر النفق ،حيث سينبثق في القصيدة وتحديدا بعد السطرين الاولين فيها
الفعل وليس رد فعل على ماجرى، فما بين مفتتح القصيدة والسطر التالي ليس
مابين الصوت والصدى، بل الفعل والفعل المضاد..
وهكذا سيكون الرد الشعري على الصمت – المسافة البعيدة – الغرق في الرمال
بالعشب العنيد والنار المقدسة العالية :
(1) تعشب الكلمات القديمة فينا
(2) وتشهق نار القرابين ،فوق رؤوس الجبال
(3) وتدور بنا أنت، ياوجهنا المتخفي
خلف كل سحابة
في الكهوف التي زخرفتها الكأبة
ويجر السؤال السؤال
وتبدو الاجابة نفس الاجابة
ثم تنتقل القصيدة الى ذروة ثانية حيث تتماهى الجموع في واحدها الثوري
(1)ونناديك ..نغرس أصواتنا شجرا صندليا حواليك
(2) نركض خلف الجنائز عارين في غرف الموت
(3)نأتيك بالأوجه المطمئنة والأوجه الخائفة
(4)بتمائم أجدادنا..بتعاويذهم حين يرتطم الدم بالدم
(5) بالصلوات المجوسية الخائفة
(6) بطقوس المدارات ..بالمطر المتساقط في زمن القحط،
(7) بالغاب..والنهر ..والعاصفة..
نلاحظ كيف تتوحد الجماعة في واحدها لتجعله الواحد المتعدد المحصن
(1) نغرس أصواتنا شجر صندليا حواليك
(2) نأتيك بالأوجه
(3) بتمائم
(4) بتعاويذ
(5) بالصلوات
(6) بطقوس
(7) بالمطر
(8) بالغاب
(9) النهر
(10)العاصفة
في المقطع الثاني: إحالة تكرارية مسافاتية، وتحديدا الى السطر الثاني من المقطع الاول للقصيدة: (فتبدوا بعيدا، كأنك راية قافلة غرقت في الرمال)..
هنا نكون مع مثنوي شعري، يتكور نقطة حلاجية يتماهى البعد في القرب والعكس صحيح أيضا
(فمالي بُعد ٌ بعد بعدك بعدما
تيقنت ُ أن القرب والبعد واحد / ..الحلاج)
وهكذا يتخلق إنبعاث اسطوري للمنقذ المخلص ،واهب الحياة ،هازم الموت ،
وحده يستحق انشاد المنادى :
(قادما من بعيد..على صهوة الفرس
الفارس الحلم ، ذو الحربة الذهبية
يافارس الحزن ..مرغ حوافر خيلك فرّق مقابرنا الهمجية
حرّك ثراها
أنتزعها من الموت.. كل سحابة موت تنام على الأرض ،
تمتصها الأرض..تخلقها ثورة في حشاها
أنتزعها من الموت، يافارس الحزن ..
أخضر،قوس من النار والعشب أخضر
صوتك..بيرق وجهك .. قبرك )
وهنا نتلمس السمة الثانية في المقطع، أعني الحوارية ، حيث يبدأ صوت الفارس بالكلام :
لاتحفروا لي قبرا
سأرقد في كل شبر من الأرض
أرقد كالماء في جسد النيل
أرقد كالشمس فوق حقول بلادي
مثلي أنا ليس يسكن قبرا
لماذا يظن الطغاة الصغار وتشحب ألوانهم
ان موت المناضل موت القضية
ثم تستمر القصيدة بصوت الفارس حتى النهاية
وهنا يتغذى النص في سطره الاول على ماجرى للمتصوف الحلاج، في مقتله:
أغسل بالدم رأسي واقطع كفي
وأطبعها نجمة فوق واجهة العصر
فوق حوائط تاريخه المائلة
وسأبذر قمحي للطير والسابلة…
*المصادر
*الدراسة منشورة في مجلة الثقافة الجديدة/ ع :373/ أيار 2015
(*) محمد الفيتوري/ قلبي على وطني/ مجلة الثقافة الجديدة / عدد خاص / تشرين الثاني – كانون الاول/ 1971
(*) عبد المنعم الغزالي/ الشفيع أحمد الشيخ والحركة النقابية والوطنية السودانية/ دار الفارابي/ بيروت/ ط1/ 1972
(*) مجلة الثقافة الجديدة/ ع24/آب/ 1971/ عدد خاص / ملف عن الانتفاضة الثورية في السودان وصداها في العالم / اعداد فخري كريم