يحكى ان مجموعة من القنافذ اشتد بها البرد ذات ليلة من ليالي الشتاء ..فاقتربت من بعضها وتلاصقت طلبا للدفء والأمان ..فآذتها اشواكها ..فأسرعت تبتعد عن بعضها… ففقدت الدفء والحرارة .. فاضطرت للاقتراب من جديد والالتصاق مرة اخرى ببعضها متحملة الم الوخزات وحدة الاشواك بشكل يحقق لها الدفء والأمان ويحميها في نفس الوقت من اشواك الاخرين .
فاقتربت ولم تقترب وابتعدت ولم تبتعد .وهكذا حلت مشكلتها ..
وهكذا ينبغي ان يفعل الانسان ..فالالتصاق الشديد يؤلم ولكن الوحدة تؤلم اكثر ..
قصة تدريبية نرويها في دورات التنمية البشرية تتجلى العبرة فيها في أن العلاقات مع الآخرين مصدر للقوة والتجدد الدائم من خلال علاقات الأخذ والعطاء والاكتساب والتأثير المتبادل بين الطرفين لتحقيق التفاعل المشترك السليم ، حيث ان الفرد لا يمكن ان يعيش بمعزل عن الاخرين وإنما يتواصل ويتفاعل معهم للشعور بالدفء والأمان و الاحساس بالانتماء وإشباع حاجاته البيولوجية والنفسية والاجتماعية من خلال ذلك التفاعل ..
ومن خلال عملية التفاعل الاجتماعي تلك مع الاخر يكتسب الانسان كذلك صفة الانسانية ويتشكل سلوكه الاجتماعي ويتعلم ادواره الاجتماعية ويتمثل ويكتسب المعايير الاجتماعية التي تحدد هذه الادوار وهذا ما يطلق عليه بعملية التنشئة الاجتماعية والتي تعد عملية اساسية لاستدخال ثقافة المجتمع في بناء شخصية الفرد وتحويله من كائن حيوي ( بيولوجي ) الى كائن اجتماعي مما يساعد على تنمية النواحي الاجتماعية ، فالفرد في تفاعله مع افراد الجماعة يأخذ ويعطي فيما يختص بالمعايير والأدوار الاجتماعية والاتجاهات النفسية والشخصية …مما يتطلب منه التكيف والتوافق النفسي مع المحيط الاجتماعي والمادي الذي يتفاعل معه بتعدد اجناسه وأطيافه بمعنى ان يمتلك القدرة على التكيف مع بيئته الاجتماعية في مجال مشكلات حياته حتى يستطيع ان يشبع حاجاته ويرضي دوافعه بطريقة توافق الجماعة ويرتضيها المجتمع .
وعليه فان هناك قواعد تنظيمية معينة يجب ان يفهمها الافراد ويتعاملون على اساسها لكي تتيح لهم قدرا اكبر لفهم ادوارهم وواجباتهم وحقوقهم والسلوك الذي يجب ان يتبعوه في ضبط علاقاتهم من خلال تحديد تلك الادوار والحقوق والواجبات .
فالإنسان يميل الى الاجتماع مع بني جنسه والانضواء تحت لواء جماعة بشرية معينة متفقة مع حاجاته ودوافعه واتجاهاته النفسية مادامت تلك الجماعة تتيح له الفرصة بتلبية حاجاته البيولوجية والاجتماعية والنفسية ، و اتاحة تلك الفرصة دليل على مدى احترامها وتقبلها له وتقديرها لظروف كل من افرادها من اجل ان يحقق كل منهم ما يبتغيه وسط علاقات اجتماعية سليمة مما يساهم في تحقيق التوافق النفسي السوي والأمن الاجتماعي المطلوب .
وحرمان افراد الجماعة من اشباع تلك الحاجات ليس من الاسلام في شيء ، يتجلى ذلك حينما حث نبي الرحمة المسلمين على اشباع تلك الحاجات اللازمة للبقاء وادامة الحياة كإنكاره على الرجال الذين عقدوا العزم على قيام الليل وصيام الدهر واعتزال النساء فقال لهم في الحديث المعروف :- ” أأنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ اما والله اني لأخشاكم لله واتقاكم له ، لكني اصوم وافطر واصلي وارقد وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني “.
و بموازاة ذلك دعا الاسلام كذلك الى تنظيم تلك الحاجات والسيطرة عليها وجعلها وسيلة لاغاية لكي يستطيع الانسان العيش بامان وسلام ، اما اذا اصبح يعيش فقط ليشبع حاجاته فإنها من المؤكد قد تسيطر عليه او تنعدم ارادته في اختيارها وتضعف حريته في كيفية اشباعها , وقد يشبعها من حرام ويظلم نفسه ويؤذي غيره ويضطرب توافقه النفسي فقال تعالى :” يا ايها الذين آمنوا لا تلهكم اموالكم ولا اولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون “. (المنافقون 9) .
مما يتطلب من الجماعة ان تغرس في نفوس كل افرادها انه مثلما هو يملك حاجات نفسية وإنسانية واجتماعية لا بد ان يترك للآخر مساحة لإشباع ما يوازيها من حاجات والاستمتاع بما احل الله من طيبات ذكرها بقوله تعالى :” يا ايها الذين امنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا له ان كنتم اياه تعبدون “. (البقرة 172) ولكن ….بشرط ان لا يتعدى كل منهم على الاخر :” يا أيها الذين امنوا لا تحرموا ما احل الله لكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين ” . ( المائدة 87).
و ان الإنسان السوي المالك لزمام نفسه عليه ان يقوم بإشباع الحاجات الصحية وقمع الحاجات غير الصحية التي تساعد على هدم القيم ودمار المجتمع ، فيما يساهم اشباع الحاجات الصحية على نمو الانسان وارتقائه نفسيا وجسميا واجتماعيا وتهذيب اخلاقياته والتي اشترط الخبير العليم ان تشبع بالحلال وحذر ونهى عن اشباعها بالحرام فإذا كان السلوك في اشباعها غير مشروع كان الاشباع سيئا واعتبر ذلك فسقا وفجورا فيه ظلم للفرد وفساد للمجتمع وتعدي على حدود الله حسب قوله تعالى : “أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ، اما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما ارادوا ان يخرجوا منها اعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذين كنتم به تكذبون “. (السجدة 17-20).
و احل الله الحاجات الصحية وذكرها في القران الكريم (بالطيبات )كما فسرها علم النفس الاسلامي في حين حرم غير الصحية و حرمها في جميع الشرائع السماوية في التوراة والإنجيل والقران واسماها ( بالخبائث ) والتي غالبا ما يؤدي اشباعها الى ايذاء الجسم وإفساد العلاقات الاجتماعية وهدم القيم .. قال تعالى : ” الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم “. ( الاعراف 157)
وهكذا اقتضت حكمة البارئ ورحمته لعباده ان لا يستطيع اي منهم اشباع جميع حاجاته في الحياة دون مساندة بعضهم لبعض وإنما جعل كل منهم بحاجة الاخر لتدوم الحياة وتستمر (اهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون ” . (32 الزخرف).