انقسم العالم بعد الحرب العالمية الثانية الى عالمين, وزع القوى الكبرى الدول بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي,وبدأت حرب التجسس بينهما وخصوصا بين الروس والامريكان,ثم تحول هذا المفهوم بعد خطة مارشال الى صراع متعدد الاوجه والجوانب ,سرعان ما انتقل الى مختلف دول العالم,واصبحت الدول العربية الحقل الاكبر لتجارب الاستعمار الشامل للشعوب,حتى تمت السيطرة الشبه كاملة على الخصوصيات الحضارية والثقافية للمجتمعات والامم,فبعد نهاية الحرب الباردة عام 1990,
دخل الجميع في قفص النظام العالمي الجديد,تحت عالم القرية الكونية,فتبددت وتراجعت حدة الشعارات والانفعالات والاحتجاجات والاعتراضات على هذه الاختراقات الداخلة في عمق الخصوصيات الاثنية والثقافية والعرقية,وبالفعل ابتعد الناس عن ترديد المصطلحات الاستبدادية القديمة (جاسوس,عميل للاجنبي,خائن,الخ.),بعد ان تحالفت امريكا مع الاتحاد الاوربي على اعادة بناء مناطق النفوذ الاستعماري في الشرق الاوسط,وبات ينظر للنموذج الامريكي الغربي كنموذج للتقدم والازدهار والصعود نحو القمة,حتى جاءت الازمة العالمية الاخيرة فتراجعت تلك التصورت الى الوراء,
وبالاخص بعد ان شاهد العالم الغربي (والعالم الثالث ايضا) حجم الفوضى الدولية والاقليمية الدائرة منذ 2003 في مختلف الدول العربية(العراق وسوريا وليبيا ومصر واليوم في اليمن),وللامانة التاريخية كان المعسكر الرأسمالي هو صاحب مبادرة شراء الذمم وايقاعها في فخ التجسس لاسباب مادية,اي ان التطور الاقتصادي للدول الرأسمالية هو الذي حسم معركة القرن(الذي سمي بالقرن الامريكي الجديد),وكان المعسكر الاشتراكي من اشد الانظمة القاسية تجاه من تشك او تعتقد انه يعمل لصالح الاعداء المفترضين,وتعد الدول العربية الثورية(مصر سوريا العراق تونس ليبيا)من اشد الانظمة العربية التي مارست العنف المفرط والاجرامي تجاه مايسمى بالمعارضة(اي الخونة من وجهة نظر تلك الانظمة),لكن لم تكن تلك الانظمة بقدر وحشية النظام البعثي في العراق,وحقيقة نقول ان هذا العنف الصدامي اثر سلبا في عموم الثقافة العربية وتحديدا الخليجية(بعد احتلال الكويت,واندلاع انتفاضة 1991),مما تسبب بظهور العديد من الحركات الارهابية الاجرامية في المنطقة(وخصوصا ان هذا النظام كان يعتمد على بعض العملاء العرب ومنهم الفلسطينيين لتنفيذ عمليات الاغتيال بحق معارضي هذا النظام),تصاعدت وتيرة الاجرام لديها بعد عام 2003 ,وبروز النموذج الديمقراطي العراقي(الذي اوصل المكون الشيعي الى سدة الحكم),ومخاوف انظمة التوريث الخليجي من شبح الطوفان العربي الجارف للانظمة الشمولية.
الغريب في الامر ان بعض الدول والاحزاب والكتل والشخصيات السياسية العربية بدأت تمارس عملية التخابر والتجسس والعمالة والخيانة العلنية لشعوبها وامتها دون خجل او وجل ,فالمعارضة اللبنانية المسيحية والعربية السنية ,والسورية السنية, والعراقية السنية تتعامل مع سفارات الدول الاجنبية بشكل علني,وتطلب منها المساعدات والاستشارات والمقترحات وحتى الاوامر,بل تطلب احيانا تزويدها بالسلاح الخفيف والمتوسط والثقيل(كأقليم كردستان في العراق),وهذا امر لايمكن قبوله مطلقا,اذا ما عرفنا ان خلفية تلك المكونات خلفية قومية,التي دمرت الثقافة العربية (وانهكتها بمصطلحات العمالة والخيانة والطابور الخامس).
مايجري في العراق وسوريا صراع كارثي من اجل البقاء,من اجل ان تبقى تلك المجتمعات المتعددة الاديان والاعراق والاثنيات متماسكة امام الهجمات البربرية البدوية الاجرامية الداعشية,ولكن قد تكون رصاصات وقذائف الجيش السوري تعرف اهدافها تجاه خنادق العدو الواضحة,الا ان العراق تعاني اجهزته الامنية والعسكرية والوطنية من ضبابية الاهداف الارهابية,فلاوجود لمواد دستورية او قانونية واضحة تعرف الجاسوس والعميل والخائن ,وطبيعة عقوبته القضائية,والعدو هو ليس بالضرورة غريبا جاء من خارج الحدود,بل جله من ابناء المناطق العراقية الغربية(من المكون العربي السني),وهؤلاء لايخفون عمالتهم للانظمة المعادية للعراق(تركيا اسرائيل السعودية وقطر وبعض دول الخليج فضلا عن امريكا),ولكن رب خائن من هؤلاء يقول ان السياسيين الشيعة عملاء ايضا للجارة ايران,ولكن تارة تكون مضطرا ان تتحالف من جارك الملائكي او الشيطاني حتى تدفع الخطر الاكبر عن بلادك,وتارة اخرى انك تجلب كل شياطين الارض لتدمير وطنك وحرق الاخضر واليابس فيه دون رحمة,هنا يكمن الفرق بين مايسمى بالعلاقات الثنائية والاتفاقيات المتبادلة بين الدول ,وبين الافراد والجماعات والاحزاب وعلاقتهم باجهزة مخابرات وسفارات تلك الدول,مايحصل في العراق امر غير مبرر بذهاب البعض بما فيهم الحكومة الى الامريكان والدول المجاورة لاستشارتها واقحامها في الشأن السيادي الوطني الداخلي,كما تفعل بعض الاحزاب والسياسيين اللبنانيين,الذين لايريدون ان يقتنعوا ان الاستعمار الفرنسي قد ترك بلدهم منذ عقود,بل ادخلوا الى اجنداتهم السياسية دول اخرى كالامريكان(ودول الخليج),نفس الاسباب التي تدفع ببعض الجهات اللبنانية بالتواصل مع من رسم لهم خارطة الحكم,يعيش السياسيين العراقيين نفس تلك العقدة(عقدة بريمر ومجلس الحكم),لايريدون بناء اواصر وعوامل الثقة الوطنية فيما بينهم عبر التمتع بالسيادة الكاملة الرسمية والشخصية في اتخاذ القرارات الداخلية والخارجية,والانعتاق من الرابط اللااخلاقي من الارادات الخارجية.
حيرة السيد العبادي الذي لايمكنه ان يكمل مشواره في رئاسة الوزراء بهذا الاداء المتواضع (الضبابي),فالعراق شاء ام ابى هو اصبح بحكم الواقع ضمن المحور الروسي الايراني السوري اليمني(الصيني),فكيف يريد السيد العبادي ان يمسك العصى المكسورة من الوسط,وهو يعلم ان طاحونة الدم التي تطحن الشعب العربي في العراق وسوريا واليمن وحتى مصر وليبيا هي ماكنة امريكية بأمتياز,الزم نفسه بالشروط الامريكية بتحجيم دور الحشد الشعبي,لانهم يعلمون انه القوة الوطنية الضاربة ,البديلة لاي حالة انهيار قد تعصف بالعملية السياسية,
ولانهم يريدون ان يلعبوا بالورقة العراقية المضطربة الى النهاية,حتى يجد مشروع تقسيم البلدان العربية الكبيرة ارضيته المناسبة للتطبيق,والا اكثر من عشر سنوات يسجل عجز الادارة الامريكية من تجهيز وتسليح الجيش العراقي ,لكي يتمكن من تسجيل انتصارا حاسما على الارهاب,هذه اشارات واضحة يجب ان يفهمها السيد العبادي لكي يحسم امره,بين البقاء في المنصب واكمال مشواره الوطني بعيدا عن املاءات الاخرين,حكومة خالية من العملاء والجواسيس والخونة والسياسيين الدواعش,او يترك الامر,ليكون مثالا للمسؤول الشجاع الذي لاتغريه المناصب والامتيازات,بل ستكون الامتيازات الحقيقية تقدير الشعب لمواقفه الشجاعة في اتخاذ العديد من القرارات المهمة في مجال مكافحة الارهاب والفساد,الا ان الامر يختلف عندما يكون الوطن عند حافة الفوضى والانهيار.