18 ديسمبر، 2024 11:59 م

خربوها وبكوا على أطلالها

خربوها وبكوا على أطلالها

” إبكِ مثل النساء ملكا مضاعا …….. لم تحافظ عليه مثل الرجالِ “

غريبة وعجيبة غضبة الفريق الإيراني العراقي العارمة على قرار مجلس النواب الأمريكي بشأن تسليح العرب السنة والاكراد دون الرجوع الى الحكومة، باعتباره تمهيداً لتقسيم العراق.

وأبرز ما صدر عن هذا الفريق تهديد (أحدهم) بمهاجمة الأهداف الأمريكية في العراق، ودعوة (إحداهن) إلى طرد السفير الأمريكي من العراق، ومطالبتها حكومة بغداد بالتحرك السريع لمنع الكونغرس الأمريكي من الإقدام على هذا العدوان الغاشم الجديد.

فهل هي غيرة على العراق، وشهامة ووطنية ومحبة حقيقية للسنة وللكورد العراقيين، ورفضٌ مخلص لانفصالهم عن الوطن، أم بكاءٌ على بيضة من ذهب مهددة بالضياع؟

إن هؤلاء الناس ينسون التاريخ بسرعة. يتباكون على وحدة العراق وكأنهم ليسوا هم الذين استدرجوا الأمريكان إلى احتلال العراق، وليسوا هم من دعمهم، واستغفلهم، واستثمر خيراتهم، واحتكر صداقتهم وحمايتهم وإنفاقهم الكبير على نظام سلطوي ليس لأحد، غيرِهم، قشة حقيقية فيه.

فلنعد إلى الوراء خمسة وعشرين عاما. وبالتحديد إلى ما قبل احتلال صدام للكويت بشهور، حين أعلن في دمشق عن تأسيس (لجنة العمل المشترك) التي ضمت الجبهة الكردستانية، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وحزب الدعوة الإسلامية، وحزب البعث العربي الاشتراكي- التنظيم السوري والحزب الشيوعي العراقي.

وما يُسجل هنا، للتاريخ والضمير والوجدان، أن اختيار قيادة تلك اللجنة لم يتم بتفويض ديمقراطي، لا من عموم المعارضين المقيمين في الخارج، ولا المعارضين الوطنيين في الداخل، ولا حتى من أعضاء أحزابهم ذاتها، بل قاموا بتنصيب أنفسهم قادة للمعارضة، بما يشبه السطو أو الغزو أو الاحتلال. ثم توصلوا، فيما بينهم وحدهم، إلى تثبيت مبدأ جديد اتفقوا على تسميته بمبدأ “التوافق”، والذي أصبح فيما بعد الأساس الثابت والنهائي لنظام “المحاصصة” الذي أنتج كل الخراب الذي عم البلاد والعباد. وقد ظلت تلك اللجنة مغلقة على أصحابها المؤسسيين، ولم يسمحوا لغيرهم بدخولها.

وللتاريخ أيضا لابد هنا من الاعتراف بأن مخابرات حافظ أسد ومخابرات إيران هما اللتان أشرفتا على كتابة وأخراج مسرحية تلك (اللجنة)، في استغلال انتهازي خبيث لحاجة اللاجئين العراقيين المقيمين في سوريا وإيران، بشكل خاص، إلى الإيواء والحماية والمال، وإلى حاجات متعددة كثيرة أخرى.

ومن اللازم هنا أيضا أن نؤكد أن الجبهة الكردستانية والمجلس الأعلى وحزب الدعوة وحزب البعث العراقي السوري كانت هي الأقوى من جميع التجمعات الأخرى المتواجدة على ساحة العمل العراقي المعارض لنظام صدام حسين، ماليا وعسكريا وسياسيا، الأمر الذي منحها القدرة على احتكار كل ما جاء بعد ذلك من مؤتمرات ونشاطات، ثم من سلطة، بعد سقوط النظام.

عملياً وواقعياً، كان لإيران سلطة حازمة وحاسمة على حلفائها الإسلاميين العراقيين، وخاصة على قيادة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الدعوة الإسلامية ومنظمة العمل الإسلامي، في حين كان لسوريا صياغة مواقف البعثيين العراقيين المرتبطين بالقيادة القومية لحزب البعث الموالي لحافظ أسد.

أما الأكراد فقد اختاروا صيغة أكثر واقعية للتعامل مع مؤتمرات المعارضة. فقد عزلوا قضيتهم عن مجمل القضية العراقية، وأقاموا جداراً حديدياً يَحُول دون تدخل عرب العراق، حتى من شركائهم في لجنة العمل المشترك، بأي شأن من شؤون كردستان.

ثم تسللت الولايات المتحدة الأميركية إلى ساحة المعارضة العراقية من باب الجبهة الكردستانية، وتحولت إلى قوة ثالثة تدير شؤون المعارضة، ورضيت إيران وسوريا بذلك، بدوافع تكتيكية هدفها الاستفادة من الغطاء الأمريكي السياسي والمالي الكبير.

ولا ينسى أحد منا ما شهدته قاعات الفندق الذي عقدوا فيه مؤتمرهم في نيويورك 1999 من حروب التكالب على الزعامة بين القادة الكبار.

وفي ذلك المؤتمر بالذات تحقق العزل النهائي لباقي أطراف المعارضة العراقية، وأصبح أبطال مؤتمر نيويورك هم حكام العراق الجدد. ثم جاء مؤتمر لندن 2002 ليعمق احتكارهم للسلطة واقتسامهم للمناصب والمكاسب، قبل سقوط النظام بقيل.

وقد أحدث ذلك انقساما عميقا بين العراقيين في الخارج تفاعلت تأثيراته على الداخل، حيث تفجر الجدل الواسع والساخن بين عموم المعارضين العراقيين حول هذا التسلط الظالم على الشعب العراقي، وحول تبعية قرار المعارضة لإيران وسوريا، وأمريكا بعد ذلك، الأمر الذي أدى إلى تناقص ثقة المواطن بعدالة المعارضة واستقلاليتها وجديتها، حتى أن كثيرين من المعارضين توقفوا عن المعارضة، واكتفوا بالصمت والترقب.

ثم جاءت أهم وأبرز أخطاء الأمريكان، سواء كانت مقصودة أو نتيجة إهمال أو جهل، حين قرروا تسليم العراق كاملا، بأهله وثرواته ومقدراته ومصيره ووحدة أرضه وشعبه، لقادة (لجنة العمل المشترك) الكبار، وهي تعلم بأنهم لا يمكن أن يعملوا على إقامة دولة ديمقراطية قوية وموحدة. فعراق ديمقراطي وعاقل وعادل ومتحضر يمنع تشكيل مليشيات خارج الدولة، ولا يسمح لرجال الدين بقيادة العملية السياسية وصياغة دستورها وقوانينها، لا يناسبهم وليس من أهدافهم بأي حال من الأحوال.

وهذا ما جر إلى سلسلة القرارات الأمريكية المدمرة المتتابعة، أولها التسليم برغبة الفريق الإيراني العراقي والمعسكر الكوردي في إلغاء الجيش العراقي بالكامل، وتسريح مئات الألوف من ضباطه وجنوده، دون تعويض، وإعادة تشكيله على أسس المحاصصة ذاتها. وثانيها غض الطرف عن تدفق مئات المسلحين من إيران بذريعة أنهم عراقيون عائدون من المنفى الذي طردهم إليه صدام حسين. وثالثها عدم اعتراضهم على تشكيل المليشيات، وعدم تدخلهم لمنع انتشار السلاح خارج الدولة. ورابعها اعتماد تلك الأحزاب والمليشيات مصادر معلومات وحيدة غير مشكوك فيها عن أفراد ومجاميع ومدن وقرى متهمة بالإرهاب والتكفير ومقاومة الاحتلال الأمريكي. وقد أفضت هذه الأخطاء، مجتمعة، إلى إقامة جدران من النار والحديد عزلت الملايين من سكان المحافظات السنية عن حكومة المركز، وأفقدتها الثقة بها، وأسست لفكرة الإدارة المستقلة بصفة أقاليم دستورية، أو الانفصال النهائي والاستقلال.

ولا شك في أن هذا الواقع الجديد وفر لبقايا البعثيين ولفلول القاعدة والتجمعات الإرهابية الأخرى فرصة ذهبية لاستثمار المحاصرة والملاحقة العسكرية الأمريكية والإيرانية التي استهدفت، بالدرجة الأولى، أبناء الطائفة السنية، دون تفريق ولا تمييز بين مواطن مستقل وديمقراطي، وبين إرهابي حقيقي، لتنطلق، من كل ذلك، أعمال العنف والحرق والقتل والمفخخات التي تقوم بها جيوش ما سمي بالمقاومة، ثم لتقابلها الحكومة المركزية (المالكية)، على مدى ثماني سنوات، بحملات قمع ودهم وتجويع واعتقال واغتيال ومداهمات

بحجة محاربة الإرهاب. وأصبح المالكي راعيا ومشرعنا للمليشيات. بل إنه أقدم على ضم الكثير منها إلى الجيش والشرطة والأمن والمخابرات، رغم أن من غير العدل ولا القانون ولا الوطنية تجاهل سلوكها الإرهابي، وخطابها الطائفي العدواني.

وفي ثلاث عشرة سنة من حكمهم رجع العراق خمسين عاما وأكثر إلى الوراء، وتمزقت وشائج اللحمة بين العراقيين، وجاعت ملايين، وقتلت أو هجرت ألوف، وسرقت أموال، وفقد الوطن خيرة علمائه وخبرائه وأدبائه وفنانيه، وأصبح جواز السفر العراقي في آخر سلم الجوازات المحترمة في العالم، وتعددت الاحتلالات، وأصبحت السلطة تحت رحمة الجهلة والأميين والمتطرفين والقتلة واللصوص، وصارت الدولة تعيش على القروض والديون والهبات.

وسجل نوري المالكي الذي حكم تحت وصاية إيران شاهد على أن تقسيم العراق، في ظل حكمه غير الرشيد، أصبح مطلبا شعبيا في أوساط واسعة من العراقيين. ولا يمكن تبرئته من احتلال (داعش) لمساحات واسعة من الوطن، وهو الأمر الذي لم يكن ليحدث لو لم تتوفر له حواضن في المنطقة تمده بالرجال والسلاح، وتتستر على تحركاته في المنطقة.

وليس معقولا أن الإدارة الأمريكية لم تكن تتوقع كل هذا الخراب الذي لابد أن ينتج عن حملات الفصل الطائفي والعرقي، والتهميش والظلم والفساد والتجويع والتجهيل، على أيدي قادة المعارضة السابقة الذين احتضنتهم ومولتهم وهيأتهم لوراثة الديكتاتور.

أما من يأتي اليوم من قادة الفريق الإيراني زاعما بأنه يرفض التقسيم، ويدعو لمنع الكونغرس الأمريكي من شرعنته ودعمه والتمهيد له فهو إما كاذب ومنافق، أو جاهل ومغفل ومضحوك عليه. إذ كيف يمكن أن يكون صادقا في دفاعه عن وحدة الوطن من لم يترك وسيلة ولا إثما ولا ناقصة تُكفــِّر الملايين، سنة وكوردا، وشيعة، بالوطن والوطنية، إلا وتفنن في استخدامها؟ وما جرى في ديالى وصلاح الدين، وما سوف يحدث في الأنبار أكثر من دليل.

وحتى لو كان الأمريكيون راغبين فعلا في تقسيم العراق فلا شيء يمكن أن يحقق هذه الرغبة أكثر من أهل مكة الأعرف بشعابها، والذين أصبحوا أقرب إلى الاستجارة بنار التقسيم من رمضاء حكمٍ جائر وفاسد ومليشياوي، وبلا عقل ولا ضمير.