أخيرا تنجرف مدينتي في أحضان الليل وتتوسد ذراعه لتنام بعد ان يطفئ أبنائها شموع غرفهم الواحدة تلو الأخرى بعد أن شبعوا من أخبار يوم حزن أخر من القتل والسلب والنهب والتهجير وبيع الذمم والضمير والشعارات المضيئة وحتى من فروض الصلاة .
أقبل الليل على غرفتي … مضت قرون وأنا انتظر قدومه ! أصبحت احلم بقدومه خاصة وان أمامي مهمة يجب ان أنفذها بعدما اكتشفت بان هناك جدار ابيض يقف بشموخ أمام غرفتي …يطل بياضه الناصع أمامي …يغريني بانتهاك حرمته ! وكسر شوكة بياضه في مدينة العبث اللامتناهي
الجدار! هو ذلك الدفتر المفتوح عبثا للذين كتموا صرخات الغضب أمام كل قوى غبية تحاول إطفاء نار حضاراتي ونقوشي ورموزي وأحرفي وتراثي من الوجود
الجدار! صفحة مفتوحة للذين سئموا هلهله الرصاص وتفجر ينابيع الدم من أجساد غصة كانت تحلم وقتها بشم عبير المستقبل
الجدار! مقبرة المشاعر والغضب اللامحدود للذين كتموا مشاعرهم واكتفوا بالغصة المحصورة في أعماقهم
ومدينتي الغارقة في عالم التناقضات أصبحت تنتحب وهي نائمة وليس لي سبيل سوى أن أوقظها من سباتها ولكن بأسلوبي
الخاص .
في هذه الليلة أصبحت أعي حقيقة واحدة تكبر كفقاعة زاهية الألوان ومغرية في مخيلتي وعندما تشرق الشمس …تنفجر
هواء غرفتي ساخن ملوث بصرخات أهل المدينة أصبحت كوابيسهم حقيقة تلاحقني وتجتاح عالم الخيال تطالبني بالانتقام …مازال صداها يتردد في أرجاء غرفتي وأنا الذي سوف أوصل أصوات غضبهم للذين احترفوا الشعارات الزائفة صباحا وطاولات القمار ليلا في مدن الغرب …..وأنا المختار الذي لازلت الملم بقية أشلائي المتناثرة إلى أن تزف ساعة الصفر لأنفذ خطتي ضد الجدار الأبيض !
الصمت والظلام يشرنقان المدينة … ويجب أن أركز كل جهودي وأضع خطط حربية وأخرى إستراتيجية وأخرى بديلة كي لا أقع فريسة للخطأ الذي وقع فيه غيري واحترق في أقفاصهم وحملت صرخاته وما تبقى من رماده الريح !
على الجدار سوف اكتب من ذا الذي سمح لكم بان تزيلوا حروفي التي كتبتها منذ الأزل ؟ من الذي سمح لكم بان تدمروا مدني وتحرقوا كتبي وحقول معرفتي وتغتصبوا كلماتي وتحرفوها لصالحكم …أي خط اخترتموه لتجاهدوا في سبيله من غير أن تحتكموا إلى العقل والمنطق والإنسانية ؟
سوف ارسم عبارات غضبي على الجدار بكل أمانة …بكل جرأة … بكل قوة … هكذا
فأنا لا استطيع أن أكون محكوما بالإقامة الجبرية في غرفتي وأن أقف كمشاهد عادي خلف النافذة خالي المشاعر أمام مهرجان الدم اليومي الذي مازال يعدنا بالمزيد من المفاجآت يوميا
لا استطيع ببساطة أن أتأقلم مع الوضع الراهن وان أبدل أقنعتي مثلهم …لا …
لا تقدر عيناي ان تتحول إلى عدسات مصور خرساء باردة تصور مشاهد الرعب والدمار من غير كلمة احتجاج أو مقاومة فقط ان تلتقط الصور وتبثها إلى دماغي ليعلن رأسي عن جلطة احتجاج رسمية أمام الكم الهائل من المعلومات الخاطئة إنسانيا .
سوف أوقظ المدينة بأسلوبي الخاص …لا مفر ….غدا عندما يشرق فجر يوم حزين أخر فوق سماء مدينتي سوف يتفاجأ الجميع على جريمتي ويقرأ كل شخص عابر بسرعة ما كتب على الجدار الأبيض ومن دون تعليق كالعادة ! ويسرع ليتلاشي في جحره .
بصمت …ليلا … وبسرية البوم في الطيران … الجدار الأبيض يقف أمامي … مازال يغريني باغتصاب بياضه ودون أن يلاحظني احد …أتسلل من غرفتي …. ها هو ذا أمامي …أتلمس بأناملي سطحه الغض قبل ان انتهك حرمة بياضه ….مرت لحظة سكون مقدسة …أحسست بأنه فهم قصدي وسمح لي بأن اعبر عن مكنوناتي على جسده الأبيض
أتلفت بخشوع … يمين ….يسار
أكتب ….( الله أكبر في عالم العجائب )
التوقيع
شخص بدأ يغضب !