ينشرُ الصباح المراكشي فراشاتٍ من رمل ذهبي ناعم ويسجلُ على خدودِ أناث من أساطير الأمازيغ تفاصيلَ دهشة المدينة التي تسلم للصحراء وسائد حدائقها المصممة بالذائقة الفرنسية لسانت لوران وبيار كاردان ، وفي المقابل وانا افتح نافذة غرفتي في الشقة المطلة على السوق القديم ، هناك صباح آخر يفتح دهشته على تلك المساحات الخضراء من القصب والمشي الموسيقي لبائعات القيمر وهن يعزفن برنةِ خلاخيلهن اغاني الاطوار الخالدة التي كان ينشدها راكبوا سفينة نوح وانتهت ليشدوا بها اليوم المغني ( داخل حسن ) ببحته الغريبة والمثيرة والتي تمتزج في ليل المدينة الأفريقية مع مدائح اصحاب الطرائق الصوفية والفرق التي جاءت الى ليل مراكش لتغني أغانيها الطوطمية ، لتتحول الامكنة الى عولمة من صوفية حنيني الى مدرستي التي درست بها في قرية نائية من قرى الأهوار، وعلى مقربة من بوابتها القصبية انشدت رموشي شوق الاماني لكل شيء في المدن التي نعدُ لياليها ونحسبها خرافة وجنوناً وشهوة ، حين أتت الينا سميرة سعيد بأغنيتها الجميلة ( قال جاني بعد يومين ) .
بين صباحين وذكرى يمر شريط الأيام في متعة أن تكون مراكش جالسة في احدى مقاهي الجبايش في صدفة غريبة حين جلست لأتناول الشاي في مقهى سوق المدينة قبل ان اذهب الى مدرستي عندما تفاجئت برجل يتحدث باللهجة المغربية ، تعجبت ، الكل اتوقعه هنا إلا المغاربي ، ضحكت وتذكرت عبد الله الصغير حين عبوره الاطلسي لاجئاً وتاركا ملكه للإفرنج وسألته : يا عم أنت مغربي .
قال :نعم ومن مراكش .
قلت : وحده ابن بطوطة حمل امتعة حلم ليله المراكشي ومر على هذه البطائح ، وانت ثاني انسان يأتي من هناك الى هنا .
قال لي : العيش يا ولدي . والحق انا مندهش مما ارى هنا ، في مراكش تجابهكَ الصحراء ، وهنا يجابهك الماء والقصب والطيور.
قلت : ومن اجمل .؟
قال :كل منا وطنه هو الاجمل.
قلت صدقت ، ولكن لم تقل لي كيف اتيت .؟
قال :ولدي نحن من الفلاحين المغاربة الذين جلبتهم الدولة وسكنتهم في قرية في ضواحي بغداد لتجربة زراعية ، وانا هنا اشتري العلف من القصب الأخضر علفا للدواب وابيعه في العزيزية والصويرة والنهروان.
بالرغم من انه فلاحا لكنه كان مثقفاً ، واعجبني حكمته حين سألته أن كان عربيا أو امازيغيا ؟
أجاب :المغربي خارج وطنه يحب أن يقول انه مغربيا مسلما فقط.
اعجبني رده ، ونقلت له امنيتي بزيارة مراكش وطنجة واصيلة وكازابلانكا.
قال :هي بلدكم تعال متى شئت.
هذا الصباح المراكشي وعلى نافذة الفندق وبعد مرور اكثر من ثلاثين عام على ذلك اللقاء مع الرجل المراكشي في مقهى صغيرة في مدينة الجبايش ، أعيد صدى زقزقات العصافير على شجرة السدر قرب المقهى وهي تعزف لنا تحية اللقاء العابر .
أغمض عيني لأتذكر .
أفتحها .
أجد المفاجأة ذات شجرة أمام نافذة الفندق ، وعليها حط سرب من العصافير ابتدأ بذات الغناء القديم حالما شاهدني………!