يزداد الوضع السياسي والأمني في العراق التباسا فيما يجري حيدر العبادي محادثاته في واشنطن مع الإدارة الأمريكية في زيارته الأولى كرئيس للوزراء، لا أحد يعرف عم ستتمخض هذه الرحلة فيما تشتعل جبهتا الرمادي وبيجي ويزداد إحكام الطوق حول مركز محافظة الأنبار، في الوقت الذي أصبحت ذخيرة مقاتلي العشائر المناوئة لداعش على وشك النفاد، صورة قاتمة وأفق مجهول لا يبدو أن هذه الزيارة ستسهم في حل عقده.
وتبدو المنطقة كلها هذه الأيام كقطعة شطرنج كبيرة تتناوب أيدي اللاعبين الكبار في تحريك أحجارها وبصورة مفاجئة أحيانا وخارج المألوف أحيانا، فقد ألقت الأزمة اليمنية بظلالها على العراق وسوريا بشكل كبير بالتزامن مع دخول مفاوضات الملف النووي الإيراني مرحلة الحسم، ومع تزايد الحديث عن دور مقبل خارج اليمن لـ (عاصفة الحزم) بدأت بعض القوى الشيعية تتحسس مواقعها وتتلمس فصل الصراع القادم الجديد بعد دخول لاعبين جدد إلى الساحة.
تصريحات حيدر العبادي في واشنطن عن ضرورة تقنين التدخلات الإيرانية، وألا تمر إلا عن طريق الحكومة المركزية تشي بحالة من انعدام الوزن التي يعيشها فرقاء الحكومة العراقية الحريصين على مسك العصا من النصف للموازنة بين التدخلين الأمريكي والإيراني، هو ما بات –كما يبدو- أمرا صعب الإستمرار مع تزايد انتهاكات المليشيات الشيعية وأمام أنظار العالم كله.
واليوم تبدو مهمة العبادي بالغة الصعوبة بين فرقاء متشاكسين في حكومة تم تشكيلها بعد ضغوط إقليمية ودولية كبيرة، فرفاق دربه في التحالف الوطني يرفضون أية محاولات أمريكية لتحجيم الدور الإيراني، لا سيما بعد معركة تكريت التي ساهم التدخل الإيراني الكبير في حسمها لصالح الحكومة، ومن المؤكد أن تصريحاته في واشنطن لن تروق لهم أبدا وسيعتبرونها رضوخا لشروط الولايات المتحدة من أجل تقديم الدعم المطلوب للقضاء على (داعش)، أما شركاؤه من العرب السنة في العملية السياسية فهم مضطرون لدعم أي تدخل دولي يوقف الانتهاكات المتزايدة التي تقوم بها مليشيات الأحزاب الشيعية المتنفذة بحق أبناء مناطقهم، فيما يؤيد الأكراد أي جهد أمريكي يمنحهم مزيدا من الحقوق والحظوظ السياسية والإقتصادية.
ويبدو أن الأيام المقبلة ستشهد تبلورا لموقف العبادي بعد عودته من هذه الزيارة، فيما يتوقع مراقبون مزيدا من الإنشقاق في التحالف الشيعي أمام مثل هذه القضايا المصيرية التي تشكل خطرا على نفوذهم في عراق ما بعد 2003.
والذي يهمنا هنا هو إلى أين تمضي الأحداث، وما هو مصير عشرات الآلاف من النازحين الذين تتزايد أعدادهم يوما بعد آخر في ظل انعدام أي أفق لحل أزمتهم الإنسانية، خاصة مع ارتفاع وتيرة هذا النزوح إثر هجمات (داعش) الأخيرة في الرمادي، وحيث تمنعهم الأجهزة الأمنية من دخول بغداد لتزيد من محنتهم وشعورهم بالغربة داخل وطنهم.
إن إيران تدرك اليوم أنها تواجه خطرا جديا مع أول تحرك عربي حقيقي باتجاهها، لذا فهي مستعدة لمزيد من تأزيم الأوضاع كي تمسك بيدها أوراق ضغط قوية في مفاوضاتها مع الغرب حول برنامجها النووي، ولن تكترث بإشعال الأوضاع في العراق وسوريا واليمن، لذا فإن أياما صعبة تنتظر هذه البلدان بعد أن حشر نظام الملالي في الزاوية وبدأ في مواجهة أول استحقاق إقليمي لنفوذه الذي تجاوز خطوط الغرب الحمراء.
ورغم أن سيناريوهات من على غرار (صولة الفرسان) لمواجهة المليشيات تبدو مستبعدة اليوم في ظل إطباق خطر (داعش) على بغداد؛ إلا أن كافة الإحتمالات تبقى واردة، خاصة مع تزايد الضغوط الأمريكية والغربية لوضع حد لجرائم المليشيات التي غض العالم عنها الطرف لسنوات طويلة، لكنها هذه المرة تهدد بحرق المنطقة لتصل ربما إلى منابع النفط، وهو ما سيشكل تهديدا مباشرا للمصالح الأمريكية، وما أحداث مصفى بيجي عنا ببعيد.
لقد أصبح العراق للأسف ساحة لتصفية الخلافات بين الولايات المتحدة وإيران ودخلت دماء أبنائه بورصة الدم ومزاداته لترسم شكل العلاقة بين الطرفين، فيما تغيب أي إرادة وطنية واستقلال حقيقي للقرار، ولا تبدو النخبة الشيعية الحاكمة مكترثة لهذا الشي كثيرا، فما يهمها في المقام الأول هو استمرار تربع الشيعة على سدة الحكم ليظل الحكم شيعيا، وإن سالت الدماء وخربت البلاد وتشرد العباد.
سيتحدث التاريخ عن حقبة هيمنة أحزاب التشيع السياسي بالكثير من الإدانة، وكيف أنها وأدت أحلام العراقيين بدول مدنية تسودها قيم العدالة الإجتماعية، وكيف سلم هؤلاء القادة رقاب أبناء بلدهم لإيران، وزايدوا على دمائهم في علاقتهم بالولايات المتحدة الأمريكية، وكيف غابت كل معاني السيادة الوطنية وبددت الثروات، كيف ظل قسم كبير من هذا الشعب يصفق لهؤلاء القادة ويطبل لهم رغم ما أصابه على أيديهم من دمار ونكال، لأنه يعتقد أنهم يمثلون (المذهب والدين).
لقد ساهمت أخطاء وخطايا صدام حسين في تسليم العراق إلى أمريكا وإيران، وساهمت منهجية في إدخال العراق أتون عدة حروب، لكن ما فعله حزب الدعوة وشركاؤه في الحكم جعل العراقيين ينظرون إلى تلك الحقبة وكأنها عصر ذهبي يحفل بالتقدم والازدهار بعد كل ما مر بهم في أحد أسوأ مآسي القرن الحادي والعشرين.