متى ينتهي التاريخ ، سؤال شكل هاجسا أزليا لدى البشرية جمعاء ، منذ فجر الديانات السماوية ، التي طرحت صورا عدة لهذه النهاية الحتمية ، اختلفت بتفاصيلها تبعا لطبيعة المجتمعات التي انتشرت فيها هذه الديانات وحقيقة ما وصل إلينا منها ، لكنها أجمعت على انه لابد لهذا العالم من نهاية، وستكون هذه النهاية ذات طابع دراماتيكي ، بعد ان تتوقف البشرية وتفقد القدرة على منح الخير والسلام لنفسها ، انها متوالية يسير فيها الزمان والمكان بخطان متوازيان يتقاطعان في مفاصل مهمة من التاريخ البشري ، وتجتر نفسها عبر قرون طويلة ، تحضر بقوة كلما شعر أتباع دين ما أو مجموعة أثنية معينة بان ظلم وحيف قد وقع عليهم ، أو استشعر المتدينون إن الأخلاق والقيم والمثل التي تمثلها الديانات السماوية ، قد تعرضت لهزة عنيفة لا يمكن بعدها إصلاحها ، وعندها سوف يحتاج العالم إلى منقذ ومجدد يعيد لهذه القيم والمثل حيويتها وفعاليتها من جديد ، ويقوم بإعادة توزيع الثروات بين شعوب الأرض وفق رؤية اقتصادية وسياسية تخالف بصورة كبيرة جميع النظريات الاشتراكية والرأسمالية التي جربتها الحكومات في إدارة بلدانها ، لتتحقق العدالة الإلهية التي نصت عليها جميع الأديان السماوية منها والوضعية ، وينشر الخير والعدل في ربوع الأرض ، لينتهي العالم إلى خير بقول الله تعالى .. (إن الأرض يرثها عبادي الصالحون )… إن هذه الحتمية إذا ما أسقطناها على المراحل التي مرت بها البشرية ، سنجدها لا تمثل حتمية دينية فحسب بل حتمية وضرورة تاريخية ستفرض نفسها بشكل أو بآخر حين تبلغ البشرية حدا من التطور الفكري المادي تعجز حينها عن إيجاد بدائل تستطيع من خلالها التعامل مع هذا التطور ، بعد أن جربت كل النظريات والأطروحات والآليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لأجل ديمومة هذا العالم ورخائه ، كون كل ما طرح هو مجرد بدائل آنية ، ومراحل للتطور الفكري البشري ، بدء بالفلسفة اليونانية حتى وصلت إلى عبر ما يطلق عليه ( الديمقراطية الليبرالية ) التي يعتمدها العالم المتحضر الآن في إدارة مفاصل الحياة فيه بكل إشكالها في البلدان الغربية ، والتي بقيت هذه النظرية تمتد بشكل عمودي ولم تأخذ بعدا أفقيا في تعميمها إلى بلدان العالم الأخرى ، حيث لازالت الكثير من هذه البلدان ترزح تحت وطأة الفقر والظلم والحكم الاستبدادي الدكتاتوري ، ولازالت الديمقراطية الليبرالية تمثل أسلوب انتقائي لم خرج عن نطاق الغرب المتحضر الذي شجع على إقامة هذه الدكتاتوريات في المناطق التي تحتضن الثروة من العالم لضمان تدفق هذه الثروة إليها والمتمثلة بالبترول وغيره من الثروات الطبيعية الأخرى … لكن هل ان الديمقراطية الليبرالية هي نهاية المطاف لنتاج العقلية الإنسانية ..؟
في عام 1989 ميلادي نشر الكاتب الأمريكي المولد ، الياباني الأصل فوكوياما مقال في مجلة ناشينال افيرز بعنوان (نهاية التاريخ ) … استنتج فيها ان الديمقراطية الليبرالية هي نقطة النهاية في التطور الاجتماعي والثقافي للإنسانية ،والشكل النهائي للحكومات ،وفي عام 1992 ميلادي طور نظريته هذه بإصداره لكتاب بعنوان ( نهاية التاريخ والإنسان الأخير ) … وسع فيه مفهوم هذه النظرية ، بقوله ان انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء النظام الشيوعي وما جر هذا الحدث من تداعيات كبيرة على المستوى العالمي كانتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي ، ونشوء عالم أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، أدى هذا التطور إلى توقف التاريخ ، أي ان التاريخ لم يعد يشكل محورا مهما كون الأحداث المهمة والخطيرة التي تحركه قد توقفت ، كانت نظرية نهاية التاريخ والإنسان الأخير رؤية جديدة بمنظور رأسمالي غربي مقابل نظرية كارل ماركس (المادية التاريخية ) .. والتي يرى فيها ماركس ان التاريخ سينتهي عندما ينتهي الصراع الطبقي ، وتنتصر الطبقة العمالية لتقود العالم ، بعد ان يتلاشى النظام الطبقي فيه … واختزل فوكوياما جميع التقاطعات وصراع النفوذ والمصالح في العالم ، ومحاولة بعض الشعوب المضطهدة من استعادة حريتها ووجودها ، بالصراع الذي كان قائما بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي ، وغاب عنه إلى إن هنالك صراع جديد يحمل ملامح مختلفة عن شكل الصراع الذي كان قائما قبل انتهاء الحرب الباردة ، سيأخذ إبعادا ثقافية واقتصادية وعقائدية ، والذي أطلق عليه الكاتب الأميركي صاموئيل هنتجتون .. (صدام الحضارات ) في مقال نشرها في مجلة فورين اميرز عام 1993بعنوان (صراع الحضارات) ، وجاء هذا المقال ردا على نظرية فوكوياما ، وأشار فيه إلى إن عالم ما بعد الحرب الباردة سيشهد صراعا بين الغرب وأميركا من جهة والإسلام والصين واليابان والهند من جهة أخرى ، وأن ما سيحكم العلاقة بين هذه الحضارات هو الصدام على أساس الثقافة والهوية … بقوله (إن الثقافة والهوية الثقافية التي على المستوى العام هي التي تشكل أنماط التمسك والتفسخ والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة ) … إن هذا الصراع الجديد والذي أصبح جزء من ساحته الشرق الأوسط وبعض دول العالم الإسلامي أعاد تفعيل حركة التاريخ من جديد بصورة اكثر احتداما ، والذي اتضحت معالمه بسقوط برجي التجارة العالمية في نيويورك عام 2001 ميلادي ، وما تلاها من أحداث خطيرة ساهمت في إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية في هذه المناطق من العالم ، وظهور الإسلام كعقيدة وسلوك اجتماعي على انه العدو البديل للنظام الاشتراكي بالنسبة للغرب … طبقا لنظرية فوكوياما، فإن الديمقراطية الليبرالية أثبتت في تجارب متكررة منذ الثورة الفرنسية وحتى الفترة المعاصرة، أنها أفضل النظم التي عرفها الإنسان أخلاقياً وسياسياً واقتصادياً ، أو أنه لن يكون هناك دول لا تتوافق مع النموذج الديمقراطي الليبرالي ، حيث قال في كتابه… (ليس من الضروري أن تصبح كل مجتمعات العالم ليبرالية ناجحة ولكن الذرائع الأيديولوجية الخاصة بها والتي تدعي امتلاكها لنظام مختلف وأرقى من الديمقراطية الليبرالية ستنتهي )… وفق هذه الرؤية للكاتب فان الديمقراطية الليبرالية هي الأسلوب الحضاري الذي ستنتهي اليه كل النظم الإدارية في دول العالم بغض النظر عن الخصوصيات الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية لمجتمعات هذه الدول والتي قد تصطدم مع هذه المفاهيم الدخيلة على قيمها وموروثها الحضاري والديني الذي تتمترس به بوجه الثقافات الأخرى ، كالمجتمعات الإسلامية بقوله … ( انه بات ممكنا اختراق العالم الإسلامي على المدى البعيد بالأفكار التحررية ) … وأعتقد إن عملية اقتباس بعض التجارب من الغرب المتحضر وتطبيقها على مجتمعاتنا الإسلامية أمر جيد ويصب في مصلحتها ، وبما إنها شعوب متلقية غير منتجة فيجب ان تكون عملية الاقتباس هذه انتقائية حذرة ، بحيث تعمل على الحفاظ على خصوصية هذه المجتمعات وان لا تمس الثوابت والقيم التي تحركها وتشكل منظومتها الاعتبارية والأخلاقية ، الغرب المتحرر حين يصدر لنا التكلنوجيا المتقدمة فانه يصدر معها ثقافته وقيمه الأخلاقية بعدما تحول العالم إلى قرية صغيرة وفق مفهوم العولمة ، فنتج عن هذا نشوء أنموذج للإنسان العربي والمسلم مشوه المعالم والتوجهات يعيش صراعا بين ما يتأثر به وبين موروثه الديني والبيئي ، كقول الشاعر الراحل نزار قباني وهو يصف مجتمعاتنا ( لقد لبسنا قشرة الحضارة .. والروح جاهلية ) … ويؤكد فوكوياما في نظريته هذه التي أخذت بعدا براغماتيا نفعيا على إن الحل الأمثل لجميع المشاكل السياسية والاقتصادية التي تعيشها شعوب العالم يكمن في إتباع النموذج الأمريكي الغربي ، بعدما فشلت الكثير من النظريات والأطروحات مقابل هذا النموذج ، بقوله …(انه ليست هناك إيديولوجية ما يمكن ان تحل محل التحدي الديمقراطي التقدمي, فالملكية بأشكالها المتعددة قد اضمحلت على نطاق واسع مع بدايات القرن العشرين، والفاشية والشيوعية لم يصدقا في طرحهما السياسي والاقتصادي والاجتماعي ) … ويختم نظرته هذه بقوله (اذا كنا وصلنا الآن إلى نقطة حيث لا يمكننا ان نتخيل عالما بديلا عن عالمنا ، الذي لا يقدم لنا طريقا واضحا للحصول على مستقبل أفضل ، لذا يجب أن نأخذ بالاعتبارامكانية أن يكون التاريخ نفسه بالمثل قد توقف ) … وقد واجهت هذه النظرية الكثير من الانتقادات كونها غير قابلة للتعميم على دول العالم ذات التوجهات المختلفة ، كما أشار الكاتب الأمريكي بنجامين بارير في كتابه الذي أصدره عام1995 ميلادي بعنوان (الجهاد ضد ماك وورلد ) ، في إشارة إلى مطاعم مكدونالدز وانتشارها حول العالم كجزء من العولمة الثقافية ، وقد طرح هذا الكاتب عدة فرضيات تعمل على إضعاف نظرية فوكوياما حول تعميم الديمقراطية الليبرالية ومنها .. ( قيام بعض الدول بعزل نفسها للحفاظ على أنظمتها مثل الكثير من دول أمريكا اللاتينية والأنظمة الاشتراكية في العالم ، أن تعمل دولا اخرى على القيام بعملية تغريب لمجتمعاتها وفصلها عن جذورها الدينية والاعتبارية كما حصل في تركيا ، او قد تلجا بعض الدول إلى التحالف مع قوى أخرى لإحداث توازن مع الغرب كالنموذج الإيراني ) انتهى كلام بنجامين … وهنا لابد من القول ان هذه الارض التي احتضنت الحراك الانساني برسالاته السماوية وقيمه النبيلة التي انتجتها العقلية البشرية بغض النظر عن شكلها او توجهها ومنذ الازل ، لا يمكن ان يتوقف فيها التاريخ وفق الرؤية الاميركية الانتهازية ، وان البشرية ستبقى في صراع دائم مابقي الخير والشر والحق والباطل على هذه الارض ، الى ان يقضي الله امرا كان مفعولا .