فور هبوطه من الطائرة التي نقلته، معززا مكرما، من باريس إلى طهران عام 1979 شمر الخميني عن ساعديه، وأطلق أعوانه المبالغين في الاندفاع والهيجان لهدم النظام السابق، بكل حسناته وسيئاته، ونسف علاقاته بدول العالم، واجتثاث قياداته المدنية والعسكرية، وإقامة نظام بديل مختلف كليا، بمعتقداته ومقاييسه وأساليبه ومنطلقاته، قائم على فكرة النيابة المطلقة عن الإمام الغائب، مانحا نفسه، بموجبها، قدسية مطلقة، وجاعلا قراراته وأوامره إلاهية يكفر من يجادل فيها، ناهيك عن مخالفتها أو الاعتراض عليها.
ولأنه جمع السلطتين الدينية والدنيوية في يده فقد ألغى وجود الشعب الإيراني تماما، وأدخله في خانة العبودية، وجرده من كل حقوقه الإنسانية، وألزمه بواجبات قننها هو، وحدد ثوابها وعقابها.
ثم جعل حراس ثورته، وأغلبهم متطرفون متشددون، هم وحدهم المخولين بتقرير الحلال والحرام، واختيار من يشارك في الحكم ومن يطرد منه، جاعلين من سلطتهم سلطة أخرى أشد قسوة وعنفا على الجماهير من سلطة الولي الفقيه، ذاتها .
بعبارة مختصرة، لقد أقام الخميني وحرسه الثوري ديكتاتورية عقيدة واحدة تجاوزت في تطرفها وتشددها ووحدانيتها جميع الديكتاتوريات الأخرى المعتادة في المنطقة والعالم في عصرنا الحديث.
ولم يقتنع بترسيخ نظامه الجديد في إيران وحدها، بل أتبع ذلك، من الأيام الأولى لانتصاره على الشاه، بفكرة تصدير الثورة إلى العراق أولا، ثم إلى دول الجوار الأخرى بعد ذلك.
هذه هي إيران التي نصبت نفسها حامية للشيعة في العالم، وآخذة بثاراتهم القديمة والجديدة، وجاعلة لها منهم أذرعا مسلحة تنوب عن الجيوش الإيرانية في تفتيت مجتمعاتها، وتعطيل دوائر حكوماتها، وزعزعة أمنها واستقرارها، واستنزاف ثرواتها، وصولا إلى إلحاق عواصم عربية مهمة بالكيان الامبراطوري الإيراني الجديد.
وقد أغراها ضعف النظام العربي وتشتته وتصادم ولاءات حكامه فتسللت إلى عواصم عربية مهمة، واحدة بعد أخرى، بحرسها الثوري مباشرة، وبمليشيات أتقنت توليدها وتربيتها وتدريبها وتسليحها لتحقيق الهيمنة الكاملة على الوطن العربي، بادئة ببغداد التي سلمها الأمريكان لوكلائها العراقيين، ثم دمشق، وقبلها بيروت، ولاحقا صنعاء وعدن. وكان المتوقع أن يستمر هذا الطوفان الإيراني المتدافع باجتياح مدن أخرى أهم لدى ملاليها من بغداد ودمشق وبيروت.
ولولا عاصفة الحزم (اليمنية) لما أمكن وقف هذه الإندفاعة الاحتلالية، وكسر عنفوانها، وإحداث نقلة جديدة مختلفة عن سابقاتها من حلقات الصراع الدامي الذي اخترعته إيران، وفرضته على الآخرين.
ورغم أن لدول التحالف العربي المشاركة في حرب اليمن ضد الحوثيين (الموكلين عن إيران في الهيمنة على اليمن وعلى مضيق باب المندب) دواعي ودوافع متعددة في طليعتها حماية أمنها الوطني الخاص، إلا أن جمهرة واسعة من الكتاب والمحللين والسياسيين وأجهزة الإعلام العربية والأجنبية تصمم على جعل عاصفة الحزم، بحسن نية أو بسوئها، صحوة قومية عربية سنية بوجه أعداء فرس وشيعية، عرب وغير
عرب. وهذا شيء خطير وضرره كبير وتداعياته المقبلة لا تنهي الصراع، بل تمد في عمره إلى أحيال عديدة قادمة.
وهاهم القادة الإيرانيون، ووكلاؤهم العرب، يلتقطون الخيط ويبدأون بالترويج لفرية مفادها أن عاصفة الحزم عدوان سني على شيعة، وذلك لإثارة المزيد من العصبية الطائفية في الشارع الإيراني، ولتعميق الشرخ الحاصل بين العرب أنفسهم، شيعة وسنة، ولتجييش البقية الشيعية العربية التي ظلت طيلة الحروب المذهبية المشتعلة على مدى عشرات السنين، محايدة، بل رافضة لفكرة الولي الفقيه ذاتها.
هنا فقط ينبغي علينا، حكاما ومواطنين، أن نخرج المعركة مع إيران من شكلها المفتعل، ومن كونها طائفية وقومية، لنجعلها صداما أخلاقيا وفكريا ومبدأيا، بين الخرافة والحقيقة. بين الفكر الظلامي المتحجر وبين المعاصرة والحداثة. بين ديكتاتورية العقيدة الواحدة وديمقراطية القرن الواحد والعشرين. بين سلطة الوهم الإلهي والنيابة عن إمام غائب مزعوم وبين سلطة الأغلبية الشعبية التي تسود بأصوات الناخبين وفق اختيار حر لا إرهاب فيه ولا تلاعب ولا تزوير.
ولكسب المعركة مع نظام موغل في العنف والمشاكسة، ومتسلط على الجماهير بقوة الخرافة والخديعة، لابد من أن تتحول عاصفة الحزم العسكرية إلى عاصفة حزم إصلاحية، عاصفة تجديد وتنزيه وتنوير وتحديث، ليمكن تقديم البديل الأفضل والأصلح والأكثر نفعا لجماهيرنا العربية ولجماهير إيران ذاتها.
ومقابل ديكتاتورية النظام الإيراني وعدوانيته علينا أن نشهر في وجهها أنظمة حكم ديمقراطية تقدمية تحترم حقوق الإنسان، وفي مقدمتها حرية الاعتقاد والتعبير والعمل، وتفصل الدين عن شؤوون الحكم والسياسة، وتضع رجل الدين في مكانه المناسب، متفرغا لأداء رسالته في المسجد والحسينية والكنيسة، وتمنعه، تماما ونهائيا، من التدخل في سياسة الدولة وصياغة دساتيرها وقوانينها.
بعبارة مختصرة علينا أن نجعل عاصفة الحزم نقلة ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية وأخلاقية نحو العصرنة والحداثة، نقوم بها بتنظيف عقولنا وأرواحنا مما علق بها من طائفية وعصبية قبلية ومفاهيم عديدة أخرى بالية لم يعد لها مكان في مجتمعات القرن الحادي والعشرين.
وبدون ذلك، وخصوصا إذا أصررنا على جعل عاصفة الحزم هبة عسكرية قومية طائفية لصد عدوان وردع المعتدي ، لن نفعل شيئا ولن ننتصر، وستكون حروبنا هذه معارك أنظمة حكم من أجل حماية حكامها وبطاناتهم فقط لا غير.
فكم من نظام عربي يحق لنا أن نرفعه أمام جماهيرنا العربية، والإيرانية أيضا، لنقول لها هذا هو البديل الأكرم والأعدل والأقل فسادا وديكتاتورية وطائفية وعنصرية من نظام الولي الفقيه !!