حول معركة د. اسلام بحيري دفاعا عن رؤيته
لايبدو أن هنالك اية علامات واضحة في افقِ ترتفع فيه رايات سوداء تشير بما لايقبل الشك على أن هنالك نيّة جادة لاعادة النظر في كتب التراث الفقهي لدى مؤسسات علمية تدرِّس علوم الدين الاسلامي ويتخرج منها مئات من الطلبة سنويا ليصبحوا فقهاء وخطباء ودعاة وائمة يصغي لهم المجتمع وينصاع لِما يصدر عنهم من احكام،بينما نجد بين طيات المشهد العام عنفا وتكفيرا وقتلا مستندا الى فتاوى فقهيّة،وهو أمرٌ يبعث رسالة تهديد واضحة للعالم اجمع،فالخطر هنا لم يعد مقتصرا على العالم الاسلامي.
وسط اجواء مثل هذه مظللة بالتشدد والتطرف والتكفير تقمع اي صوت يحاول ان يخرج برؤية مختلفة ــ إنْ لم تكن مخالفة ـــ لرؤية اولئك الذين كانوا قد اغلقوا باب التفكير لمن سيأتي بعدهم،كان لابد أن تختمر بيئة تتوفر فيها كل الشروط لاحتواء قطاع كبير من السذج والجهلة والأميين والعاطلين عن العمل والمهمشين،يتم فيها تعبئة ادمغتهم بخطب واحاديث وفتاوى تبيح لهم قتل كل شخص اعتقدوا باساءته للدين او خروجه عنه او مخالفته لشريعته واحكامه.
من هنا يمكن تعليل الاسباب والدوافع التي كانت مقدمة لأنْ يرتكب محمد بويري جريمة اغتيال المخرج الهولندي ثيو فان غوخ في 2 نوفمبر 2004 ،وانْ يتم اغتيال عدد من صحفيي جريدة شارل ايبدو الفرنسية في 7 يناير/كانون الثاني 2015 من قبل الاخوين سعيد وشريف كواشي،وأنْ يُقتل 132 طفلا باكستانيا من قبل حركة طالبان في شهر ديسمبر 2014،وأنْ تختطف جماعة بوكو حرام الاسلاموية 200 طالبة نيجرية في منتصف نيسان 2014 .
سبقت هذه الجرائم التي وسمتها الجماعات الاسلاموية ببصمتها الدموية دفاعا عن الاسلام ــ حسب ماتؤمن وتعتقد وتدّعي ـــ سلسلة اغتيالات شهدتها المنطقة العربية في منتصف ثمانينات القرن الماضي،ابتدأت بجريمة اغتيال المفكر وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني د. حسين مروة في17 شباط 1987 في لبنان، والرئيس المصري انور السادات في 6 اكتوبر 1981،ومحاولة اغتيال الروائي المصري نجيب محفوظ في 5 اكنوبر 1995،واغتيال المفكر المصري فرج فودة في 8 يونيو /حزيران 1992 .
إن قائمة الاسماء التي سقطت من النخب المثقفة بفعل الجماعات الاسلاموية طويلة ولايسعنا هنا استعراضها كلها،وهي علامات دالة على تحولات باتت تشهدها المجتمعات العربية الاسلامية،منذ أكثر من ثلاثة عقود تشير الى شيوع ظاهرة القتل لدى الجماعات الاسلامية باعتباره وسيلة لاسكات صوت المفكرين والمثقفين ممن يعتقدونهم يروّجون للكفر والالحاد،وبذلك يعدونهم بحسب منهجهم قد خرجوا عن ملّة الاسلام واصبحوا بحكم المرتدين،والمرتد مهدور الدَّم .
الصورة على هذا الشكل ــ تبدو الآن ــ كما كانت عليه منذ عشرات السنين:فقهاء لايتجاوزعددهم اصابع اليد الواحدة،مازالوا يهيمنون منذ عشرات السنين على عقول جموع المسلمين،الى درجة تصل حد التقديس من قبل دارسين ومُدرِّسين إضافة إلى عموم الناس.
في جوهر هذه الصورة يُعدُّ كل ماجاء به اولئك الفقهاء قبل اكثر من الف عام من فتاوى وتفسيرات وتأويلات،انطلاقا من فهمهم للنص المقدس او للسنة النبوية،ثابت ومُلزِم طاعته وتنفيذه من قبل جميع المسلمين،بغض النظر عن حسابات الزمان والمكان واشتراطاتهما.
ووفق هذه الصورة بكل تلافيفها والتباساتها وتعقيداتها بات من غير الممكن بإي حال من الاحوال وتحت اي ظرف،القبول بفكرة إعادة النظر أو تجديد الخطاب، والتي يمكن أن تُطرح هنا او هناك من قِبل هذا المُفكر أو ذاك،انطلاقا من ضرورة مراجعة تراث انتجته تأويلات بشرية،وإعادة قراءته وفق رؤية أخرى مغايرة عن
قراءة تلك الاسماء ورفض المراجعة ــ هنا ــ قاطع وحاسم ولاتراجع عنه حتى لو كان الدافع الى ذلك ماتقتضيه ضرورات الواقع وماافرزته من خلط وتحريف وتشويه أصاب شكل وجوهر الدين بخدوش عميقة،خاصة مايتعلق منها بالمفاهيم الانسانية التي تشكل جوهر النص المقدس وهو يتوجه الى تنظيم حياة البشر .
كان لظهور حركات الاسلام السياسي وتنظيماتها المسلحة السبب الرئيس في تشكيل هذه الصورة المعتمة للمشهد الفكري،وقدعبرت تلك الحركات عن حضور قوي لوجودها في مطلع ثمانيات القرن الماضي ايام الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، وماتبع ذلك من تداعيات في عموم العالم وخاصة الدول العربية والاسلامية،حينها بدأنا نشهد مظاهر التكفير والعنف والقتل تطفو على سطح المجتمع،وباتت تمارسها تلك الجماعات الاسلاموية ضد كل من يختلف معها في الرؤية والمنهج والتفكير.
الأخطر في هذه الظاهرة أن تلك الجماعات لم تعد تمارس اعمال القتل والتفجير والتهديد والتكفير بشكل سرّي،ولم تعد بحاجة الى ان تخفي مسؤوليتها عنها،كما كانت عليه اساليبها حتى مطلع العقد الثامن من القرن العشرين،بل على العكس من ذلك بدأت تتتفاخر بها علنا،وتعتبرها جزءا اساسيا من تأكيد نيّتها في تحقيق مشروعها لاقامة دولة الخلافة الاسلامية على انقاض الدولة المدنية الكافرة.
الملفت للنظر بهذا الصدد،ان هذه الجماعات بدلا من أن تلقى رفضا مجتمعيا امست تحظى بمصداقية كبيرة،وتكسب الكثير من الاصوات المؤيدة والمدافعة عنها بين قطاعات واسعة من المجتمع ابتدأ من الطبقات السفلى وصعودا الى نخب تحمل شهادات علمية،وهذا مايعكس خطورة مايجري وما يحدث من متغيرات اصبحت فيه المجتمعات الاسلامية بيئة حاضنة للفكر الاسلاموي المتطرف على حساب التيارات العلمانية واليسارية والقومية التي اخذ وجودها ينحسر بشكل كبير خاصة بين اوساط طلبة الجامعات،بعد أن كانت هذه المؤسسات العلمية ميدانا رحبا لتصارع وتعايش الافكار بكل الوانها واطيافها،لتصبح منذ ثمانيات القرن الماضي ملعبا لايتسع إلا للفكر الاسلاموي المتشدد ويضيق امام الافكار الاخرى.
ضمن هذا المناخ المعبأ بالتشنج والتشدد تجيء هذه الايام قضية د.اسلام بحيري نموذجا لمحنة المفكر الذي يحتكم الى سلطة العقل في مجتمع تحكمه سلطة كهنوتية ترفض بشكل قاطع مشروعية التفكير ــ مجرد التفكير ــ بعيدا عن منظومتها وآلياتها إيمانا وأعتقادا راسخا منها على انه حكر عليها بذاتها ولذاتها،ولايجوز مطلقا لِمَن لمْ يتخرج من مؤسساتها كما هو الحال مع البحيري الذي يحمل شهادة دكتوراه من المملكة المتحدة،عن اطروحته التي حملت عنوان(تجديد مناهج الفكر الاسلامي)، ومن هذه الزاوية تحديدا بات البحيري يتعرض الى حملة تسقيط وتكفير من قبل هذه المؤسسات،بدلا من مناقشته ومجادلته حجة بحجة،كما يطالب هو بذلك منذ اكثر من عام عبر برنامجه التلفزيوني الشهير(مع اسلام )الذي يبث من على شاشة القاهرة والناس الفضائية،ولم يستجب لدعوته اي شخص يمثل تلك المؤسسات بل استنكفوا الجلوس معه ومجادلته،أولاً لأنه لم يتخرج من هذه المؤسسات التقليدية،وثانيا لأنهم يرفضون من حيث المبدأ فكرة اعادة قراءة التراث برؤية جديدة تزيح عنه ماهو ملتبس ومتقاطع مع السياق العام للنص المقدس والسنة النبوية كما هو منهج البحيري .
هذه الحرب التي تشن ضده بهذه الطريقة تذكرنا بماسبق ان وقع في مصر ايضا قبل عقدين من السنين مع د.فرج فودة،ود.نصر حامد ابوزيد،ود. سيد القمني،وتعني في دلالتها أنَّ المحنة التي يعيشها العالم الاسلامي مابين سلطة رجال الدين ــ وليس الدين ــ ورجال الفكر منذ مئات السنين،مازالت تدور بنفس الآلية وبنفس الادواة القائمة على التسقيط والتكفير والقتل.
انها حرب عبثية،قد تكون هذه الجملة تشخيص بسيط لما يمكن قوله بهذا الصدد عندما نجد انفسنا أمام حالة انتاج متكرر لهذه الحرب من قبل أحد طرفي الصراع ،بنفس اليات الدفاع والهجوم،طالما الطرف المعني لم يغادر منظومة اسلحته القديمة في مواجهة من يختلف معه في التأويل والتفسير،وهي اسلحة تُسقط من حساباتها امكانات العقل الانساني،وتضعه في خانة التحريم والتجريم،وبذلك ستبقى المجتمعات الاسلامية معزولة عن دينها بصورته الانسانية الناصعة،ومعزولة عن حاضرها ومستقبلها،لتبقى قابعة في كهوف واقبية التاريخ البعيد .
الوسط الثقافي والعلمي بمؤسساته ونخبه يدرك جيدا محنة هذا الرجل،وماستؤول اليه نتيجة هذه المعركة التي يخوضها دفاعا عن منهجه في التفكير واهدافه التي اختصرها بالعمل على تنقية التراث من كل الفتاوى التي تسيء الى الدين والسنة النبوية وتحتقر القيم الانسانية التي كرَّمها الدين بنصوصه المقدسة التي تدعو صراحة الى احترام حياة الانسان وخياراته في المعتقد.
معركة البحيري محكوم عليها سلفا بالشكل والمحتوى الذي انتهت به مع فودة وابوزيد وقبلهما الحلاج وابن المقفع الخ الخ الخ ،طالما كانت قوى المجتمع المدني وفعالياته الثقافية والحقوقية لاتملك شجاعة كافية للدفاع عن حرية المجتمع في تحديد خياراته في العيش والحياة والتفكير .