عشنا نحن المعلمون في الاهوار من خلال مباهج ثلاث ، اننا نعلم اطفالا في مكان يعيش بفطرة ايام سومر ، نشرب الحليب الجواميس مساء ونتناول القيمر صباحا ، والثالثة اننا قرأنا كل الكتب وسمعنا كل الاغاني وأي معلم فينا صار رحالة بخياله ، بعضنا ارتدى جبة ابن بطوطة واخر لبس قميص ماركو بولو ، ومن كان يحب البهارات الحارة في الاكل ارتدى قبعة فاسكو دي غاما.
ومن بين متعة القراءات تلك الروايات التي كانت تطبعها دار الآداب وفي موسم ما هبت علينا موجة اصدار جميع روايات السوري ( حنا مينه ).
فقد عايشت هذه الروايات وجدان الذين يبحثون عن الاحلام البسيطة للبشر في كفاحهم من اجل حياة أفضل.
لهذا كانت روايات حنا مينه تسنج خواطرها في ازقة عالم البحث عن الشيء الجميل وكنا نقارن رؤاه عن البحر في الاستفادة من سعته في متناولاته ونتندر على عامل الخدمة في مدرستنا (شغاتي )
ونقول :لماذا لا يمنحكَ الهور شيئا لتنقله لنا ونكتبه نصا نيابة عنكَ ، انت عشت بدأك فيه وتمسك اليوم شيخوختك .
صمت الرجل وقال : ما تعلمته هو قراءة رسائل جنود قريتنا والكتب التي استطيع فهمها ، انا اقرأ لأشعر بمتعة اني عشت هنا ، وذهبت بأحلامي ابعد من ذلك.
قال احدنا :انت تحتاج ياشغاتي بحر اللاذقية كما حنا مينه لتتخيل وتكتب.
قال :بحري هو الهور وفيه صدى حسرتي واحلامي.
قلت :وهل عندكَ احلام غير الراتب وعافية مكسيم وامه ، وصحة جواميسك.
ضحك وقال :لا ادري لماذا تجتمع المرأة والابن في مكان من القلب ،وفي الزاوية البعيدة من نفس القلب تجلس الجواميس.
ضحكت وقلت :لأنها الرزق.
قال : والروائي الذي لايعرف الهور ولكنه يعرف البحر وله قلب ، ولكن في زواياه يجلس الفقراء والبسطاء والبحارة ولكن من دون ان تكون هناك جواميس.
أنا اتحدث عن هذا لأني قرأت له رواية واحدة فقط .
طالعتها ببطيء وأردت أن ادرك اناسها فوجدتهم مثلي ولكن من بيئة اخرى.
قلت :هذا يعني أن البحر قد يصبح هورا.
ــ كلا البحر بحر ، والهور هور.
ــ كن سندباد هذا المكان واذهب الى اللاذقية تمتع يارجل ، تذكرة الباص بخمسة دنانير، وسترى حنه مينا بأم عينيك.
ــ لن احتاج قرأته في الرواية .
ــ ولكنك سترى البحر .؟
ــ قلوبنا كلها بحور.
ضحكت وقلت : ولكن بحورك لا تعوم فيها سوى الجواميس .تحتاج ياشغاتي لبحر تعوم فيه النساء.
اغمض عينيه وقال :بحر يغيض ام مكسيم لا اريده.
وهكذا مع حنا مينه واناسه المكافحين في بحر الحياة نكتشف من حكمة شغاتي وتجربته في بيئته المائية البسيطة أشياء كثيرة لم نجدها في ما قرأنا من كتب.
قبل أن يغادرنا ليعود الى بيته ،
قال :هل عندكم رواية ثانية ابحر معها في الليل ، ورأس أم مكسيم قرب كتفي يعوم معي ، فتكون المتعة كما يتمنها حنا مينه.
ناولته الرواية ، وقلت : هذه رواية عن البحر.
قال :وسأغرق بها .
دفع الرجل الرواية على احضانه وكانت غلافها يحمل صورة الروائي السوري واسمع شفتيه بكلمات قالها ذات يوم : لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة،أما العواصف فقد نُقشت وشماً على جلدي، إذا نادوا: يا بحر أجبت أنا! البحر…!