في نهاية ستينيات القرن الماضي اشتهرت بين الاوساط العراقية أغنية شعبية يؤديها مطرب شاب اسمه فاضل عواد وعنوان الاغنية هو ( لاخبر ) ، أظن أنها اشتهرت ربما لأنها أتت بموضوعةٍ غير مألوفة في النص الغنائي العراقي ، والغريب أن ملحنها المطرب ( حسين السعدي) لحنها وخاف أن يغنيها كي لا تفشل فورطَ بها فاضل عواد ليشتهر من خلالها ولتسري في مسامع الاطفال والمراهقين مثل نشيد يومي سكن الراديو وكاسيت المسجل في أول ظهور له بفضل المسجلات اليابانية التي تبيعها الشركة الافريقية.
اشتهرت الاغنية وحناجر صيادي قريتنا ( أم شعثه ) ومعدانها لم يسكن حناجرهم أي حداثة من السماع ، فلقد بقوا يمسكون ( الونين ) الحزين في حناجرهم وينشدون الطور المجراوي والصبي والمحمداوي وكأنهم يرثون من حزن المغامر السومري آدابا اول صياد سمك تحدثت عنه الأساطير الذي كان يدندن بمواله الجميل وهو يناشد الالهة بتوسلات الخلود كما توسل الامهات لذات الالهة عندما يغيب ابناؤهم في مجهول الحروب ولا تسمع أخبارهم.
نحن المعلمون أول من ادخل الاغنية ( لاخبر ) الى اسماع اهل القرية فلم يكترثوا اليها ، ولكن الفتيات العائدات من نهار الرعي أو قص القصب وخصوصا اللائي لم ينل بعد نصيب الزواج يعلوا خدودهن شيئا من حمرة الخجل ويبطئن السير بتعمد ليسمعن الاغنية ويستمتعن بها بعد جهد جهيد لفهم معاني الكلمات لأنهن بعيدات قليلا من المسجل الذي تعودنا أن نضعه وسط حلقة جلوسنا المسائية امام بوابة بينا القصبي الذي نسكن فيه الى جانب المدرسة.
لم يستطع فاضل عواد بأغنيته التي سمعها عموم الشعب أن يرغم المعدان على سماعها حتى عندما شاعت بين تلك الاوساط دعاية تقول : أن فاضل عواد صابئيا .
فكان ردهم : الصابئة لا يجيدون سوى غناء الطور الصُبي.
عنبر واحد من تلامذتنا الذين كبروا ، وتوقف عند الرابع الابتدائي ليتطوع جنديا ، وقد اراد ان يقترن بأبنة خالته التي تسكن الجبايش فكان من شروطها أن تكون زفتها بالزوارق من الجبايش الى القرية وعلى انغام اغنية ( لا خبر).
أحتار المسكين فمن اين يأتي بالمسجل والاغنية ، فكان إن نصحهُ احدهم ليجيء الي طلبا للمساعدة . فأتاني عنبر وهو حزين لينقل لي شرط خطيبته .
قلت :لاعليك يا عنبر سأعيركَ المسجل وكاسيت الاغنية ، وما عليك سوى ان تجلب علبة من البطاريات فالطريق طويل وحتما ( تْجَسيْ ) وعليك أن تستبدلها بجديدة .
وهكذا حُلت معضلة عنبر ، ووصل موكب الزفاف الى القرية وصوت فاضل عواد يصدح بأغنيته ( لاخبر ) لتشيعَ نوعا من الفرح الجديد مع اغنية كانوا لا يودون سماعها عدا النساء اللائي كُنَ مثل كورس يرددن الاغنية بعد المطرب وقد حفظتها الفتيات على ظهر قلب اثناء مرورهن وقت ما كنا نستمع سوية اليها في اماسي نهاية الدوام…!