ما جرى لتكريت وأخواتها من سيطرة داعش ثم قتال، ثم سلب ونهب وحرق وتدمير، وما سيجري بعد تكريت لمدن عراقية أخرى مثل الرمادي والفلوجة وبيجي والموصل، يحتاج إلى وقفات، فقديما قيل “بعد خراب البصرة” ويمكن أن نقول هنا “ما بعد خراب تكريت”.
وحتى نتمكن من رصد هذه المعضلة التي وقع العراق فيها منذ احتلال داعش للموصل، لا بد وأن نشير للمسؤولية، ولعل ذلك ينفعنا كأمة، وشعب، ومجتمع دولي، وحكومة، وقوات أمنية، ومؤسسات، في تقليل الضرر الذي سيحصل مستقبلا، والكل بلا شك مسؤول، فمن يتصدر للحادث يتحمل بعض التبعات، ومن يقرر إغلاق باب بيته والسكوت يتحمل كذلك التبعات.
أحاول هنا الإجابة عن سؤال يتعلق بتحمل المسؤولية؟ من يتحملها؟
في تقديري أن هناك مسؤوليات تقع على أطراف معينة من بينها – داعش – الحكومة – المرجعيات – الدول الإقليمية – الإعلام ، وهنا نستعرض واقع هذه الأطراف.
1- داعش:
داعش هي المسؤول الأول عما جرى، مع أن المدن قبل داعش كانت تعاني من التهميش والحرمان والإقصاء، وشهدت حراكا جماهيريًا واسعا ضد نوري المالكي، ومع هذا فإن داعش هي المسؤول الأول عن وضعنا الجديد.
قررت داعش احتلال تكريت قبل أشهر وقبلها الموصل، أدى ذلك لتهجير نصف أهل المدن وأكثر، الحال ينطبق على الفلوجة التي غادرها أكثر من 90% من أهلها، الرمادي كذلك تترنح وتدمّر بنيتها يوما فيوما، الموصل يمنع أهلها من الخروج الآن.
ينطبق الحال على راوة وعنه والقائمة وغيرها، فكل احتلال لداعش حصل على مدينة ما، جرَّ على المدينة أفدح الضرر.
لقد تجرأت داعش على تكفير رجالات المدن التي دخلتها، كفرت داعش الشرطة المحلية ورجال مجالس المحافظات والبرلمانيين واعتقلت عشرات شيوخ العشائر وارتكبت مجازر مروعة يندى لها جبين الإنسانية، واستعرضت بقتل أعداد كبيرة من رجال العشائر لأسباب واهية.
قامت داعش كذلك بإجلاس علماء الشريعة والخطباء في بيوتهم أو طردهم على الأغلب، أو قتلهم في بعض الأحيان، ومنعت بشكل تام أي وسيلة إعلام من الوصل لتغطية أحوال الناس ومعرفة احتياجاتهم!
ولو نظرنا إلى ما وصلنا إليه، فإنه حتى لو كانت داعش تريد “حماية السنة” كما تدعي، فإن النتيجة أمامنا ماثلة أن مدن السنة وبسبب داعش، وإعطاء داعش غطاءً تامًا للمليشيات، تسببت في إلحاق أفدح الضرر.
2- الحكومة العراقية:
أعطت الحكومة العراقية لا سيما عبارة “العبادي” الشهيرة: مليشياتنا تعمل وفق القانون ومع الدولة! أعطت أكبر مبرر لدمار المدن وحرقها وسلبها، تتحمل الحكومة المسؤولية الكبرى عما حصل لأنها لن تحمي “الممتلكات العامة والخاصة وتركتها نهبا وسلبا وحرقا وضياعا” وبغض النظر عمن حرق ونهب، فإنها تتحمل كافة التبعات.
يجب إعادة النازحين بلا مماطلة، وتعويض المتضررين وإحصاء الأضرار التي وقعت على المدينة من أجل إعادة الإعمار بميزانية الدولة.
كان من واجب الحكومة وضع خطط ما بعد المعركة، وليس أن تترك الحشد والمليشيات تفعل ما تريد، وقت ما تريد، بأي شكل تريد، فحكومة العبادي تتمتع بوصفها القانوني بأنها “الحكومة الشرعية المعترف بها عالميا”، كما أنها ومن البداية قللت من الاعتماد على المنظومة الحكومية الرسمية بشكل حاسم “جيش وشرطة ومؤسسات معتبرة” ولم تنتظر حتى تشريع قانون “الحرس الوطني” ولم تتعامل مع القوى الحية في المجتمعات نفسها التي احتلت داعش مناطقها.
لقد أسهمت الحكومة ببسط سيطرة المليشيات والحشد تحت غطاء الدولة، كذلك تدخل قاسم سليماني المباشر في تداعيات الأمن العراقي أسهم في الوصل إلى هذا الدمار الشامل، وعليه فإن وظيفة الحكومة الحالية هي:
– التعويض عن الأضرار التي لحقت بالمواطنين.
– إعادة النازحين إلى مناطق سكناهم ومساعدتهم العينية لاستمرار الحياة.
– التخطيط الدقيق قبل إقرار استعادة أي منطقة أخرى، وذلك بإشراك أبناء المدن أنفسهم للحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة، وأن يستلموا هم أمنَ مناطقهم.
– تقديم المجرمين للقضاء وإقامة حملة عاجلة لحصر المسروقات التي ملأت الأسواق والبيوت.
3 – المرجعيات الدينية “شيعية وسنية”:
المرجعية الشيعية:
أفتى السيد السيستاني للحشد فتشكل، كانت الفتوى ردا سريعا جدا على بيان موتور للناطق باسم داعش “أبي محمد العدناني” يوم قال إنهم سيهدمون “النجف وكربلاء” ووصفها بأوصاف شائنة أتجاوز عن ذكرها هنا، وهذه الفتوى كان من المفترض فيها أن تكون ضمانة وأمانا من المرجعية في النجف لبقية مكونات العراق، وما حصل من “عناصر من الحشد” المشكل بفتوى المرجعية يمثل كارثة دينية ذات تبعات ميدانية تلحق الضرر بالتعايش بين أبناء البلد الواحد، والحكم في هذا هو الميدان وليس الكلام، فالتبعات هي الأرض فقط.
صحيح أن المرجعية بادرت بسرعة لتحريم أو تجريم ما فعله عناصر من الحشد في تكريت من سرقات وحرق، كذلك أصدرت بيانات ونصائح سابقة، ثم عبرت عن إدانتها لما جرى، لكن المسؤولية كانت قبل الإدانة، ومن أسهم في تشكيل شيء فإنما يقع عليه نصره وإثمه معًا.
المرجعية السنية:
أما المرجعيات السنية، فإنها لم يسمح لها بالتقدم للأمام، وعوضا عن ذلك، كانت القنوات الرسمية تهمش “الوجوه الحقيقية لعلماء السنة” وهذه ظاهرة تجلت في عهد المالكي وهي مستمرة إلى الآن، ومختصرها أن “السلطة” هي من يصنع وجوه علماء السنة وليس العلماءُ الراسخون.
يتضح ذلك من خلال إخراج “أنصاف العلماء” الذين لا يثق بهم الجمهور السني، فيظهرون في الإعلام الرسمي أكثر من ظهور علماء الشيعة ربما، كانت الحكومة وإعلامها تتعمد إبعاد “المجمع الفقهي العراقي” على وجه الخصوص، رغم وجاهته وأنه من يسمي رئيس الوقف السني قانونيا، ومقره في جامع الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، فبدل إبراز هذا الرمز السني الكبير وخاصة العلامة المبجل “أحمد حسن الطه” شاهدنا جميعا الركون إلى عمامات لا يثق بها الناس.
إن هذا الموضوع أدى إلى تمكين انتشار فكر داعش، فمن يتصدى للإعلام في قنوات كثيرة هم “علماء السلطة الجدد” ولا شعبية لهم، ولذلك سيكون عندنا ردة فعل عكسية، هذا الأمر يشبه إلى حد كبير اعتماد قنوات معارضة إخراج علماء من خارج العراق ليس بمقدورهم فهم التعقيد الحاصل.
صعّدت الحكومة علماء غير موثوقين، وصعد الخارج علماء غير دقيقين، بينما أهمل الطرفان أهم ركيزة علمية حاليا لسنة العراق وهي على أرض بغداد وليست في مكان آخر وهي “المجمع الفقهي العراقي”.
المجتمع السني غير محصن الآن من فكر داعش، بسبب التغييب المتعمد للواجهات العلمية “الوسطية” سواء في الإعلام الرسمي أو في الميدان، وما يتعرض له “التيار الوسطي” في بغداد والعراق عامة من ضغوط هائلة، وهم محل الثقة ومصدرها ومصدر التثقيف الوسطي، وينبغي أن تذكر كلمة الحق، ولا تتعمد السلطة تصدير وجوه لا علم لها من أجل القول: إن العلماء معنا، بينما يغيب العلماء الحقيقيون وخاصة رجالات المجمع الفقهي العراقي.
4- الإعلام:
ما رأيناه في العراق، من وجود منصات إعلامية تعبوية مدفوعة الثمن ومتشنجة جدا هدفها “التأثير السلبي على العقل الجمعي”، كان سببا مباشرا في التأجيج الطائفي والمذهبي والاحتقان بين الشعب، بل ومبررا للقتل بأبشع الطرق وهو مقدمة للسلب والنهب كحالة انتقامية.
الإعلام “علم بالأساس” وليس كلاما مرسلا وتشجيعيا لأي طرف، فقد أصبح “صاحب العلم بهذه الصنعة في نظر إعلام السلطة أو إعلام داعش “نشازًا” وارتفع القول “من ليس معي فهو ضدي”.
لقد تعرض معظم الإعلاميين الرصينين في العراق وهم الغالبية، أكرر؛ الإعلاميون الرصينون هم الغالبية، لكنهم بلا منابر تذكر، لقد تعرضوا إلى حملة هوجاء من إعلاميي السلطة، فتجد الشخص نفسه “تحاربه داعش والسلطة معا” وقد وصل التعرض للإعلاميين الجيدين سنة وشيعة إلى حد التشهير والقذف بالأعراض واختلاق قصص مفبركة، وخلق مواقع إلكترونية وهمية للطعن الكاذب وأذكر مثالا على ذلك “موقع كتابات ” لأحد أجرأ الإعلاميين في العراق إياد الزاملي.
وصل الحال إلى حد التهديد بالقتل لإعلاميين شيعة من الشيعة أنفسهم ولإعلاميين سنة من السنة أنفسهم، بسبب طريقتهم العلمية في الرصد والمتابعات، وبلا شك فإن الجمهور أظهر قدرًا مخيفا من التبعية، كما دخلت “جيوش إلكترونية” للتهديد والقرصنة، ونشر الشائعات لأهداف تعبوية لكنها غير شريفة بالمنطقة، والأصل أنه ينبغي مراجعة شاملة لكل المخرجات الإعلامية، وحماية الصحفيين، وأن يكونوا سلطة رابعة.
ما أجج الوضع الإعلامي أن “معظم” منصات الإعلام في العراق، فضائية ووكالات، إنما هي “مدفوعة الثمن” وتميل لصالح فئة أو حزب، فلا تقول قولا أو تستضيف شخصا إلا بعد الرجوع لمراجعها الممولة والحزبية.
بل حتى تلك المملوكة للسلطة، ورغم أن ميزانيتها من مال الشعب، وكوادرها تفوق عددا أقوى القنوات العربية، غير أن جهالتها بعلم الإعلام أنتج أسوأ صنوف الإعلام، لتنتج نسخة سيئة من “إعلام البعث القديم” وخرج الإعلام عن وظيفته الأصلية، في أنه “سلطة رابعة” تراقب وتحاسب، فتحول إلى سلطة راكعة “للمال أو للسلطة أو للتحشيد”.
5- أمريكا ودول الجوار:
تتحمل أمريكا مسؤولية عسكرية وأخلاقية واسعة فيما جرى بتكريت؛ أمريكا قصفت تكريت بهدف القضاء على داعش، لكنها لم تأخذ الضمانات الأخلاقية في حفظ المدينة بعد طرد داعش منها، ولم تسهم في جعل أبناء المدن في خضم استعادة مدنهم لحمايتها من الكارثة، وهو خلل أخلاقي وتخطيطي تتحمل مسؤوليته، لا سيما مع تصريحات موسعة قبل القصف من أمريكا نفسها تتحدث عن المليشيات والانتهاكات، لكنها تصريحات فقط، ولم نجد لها أي أثر في الميدان.
أما دول الجوار فأهمها إيران، وكان لتدخلها فرصة لتأجيج الطائفية والمناطقية، بينما دول الخليج والجوار تتحمل مسؤولية تركها للعراق، والسماح بتدخل الإيرانيين والأمريكيين فيه، وكانت المعادلة المفترضة هي توازن النفوذ بين جميع القوى ليحل “سلام نسبي” على اعتبار أن العراق يستمد شرعيته من هذا المحيط، فهو عضو في الجامعة العربية، وهو ما لم يحصل.
شيء عن المستقبل:
لا شك أنَّ هناك أسبابًا كثيرة أخرى، لكن المستقبل يستدعي وجود حلول مباشرة، لاسيما فيما يترتب على “الممتلكات العامة والخاصة” للمدن التي ستشهد معارك جديدة.
كذلك فإن عودة النازحين إلى مناطقهم بعد خروج داعش من أي مدينة، يعتبر ضرورة بالغة يتحمل كل العالم مسؤوليتها، فنحن في حاجة ماسة لتوافق حول قصة النازحين، وآخر جرد لوزارة التخطيط عن أعدادهم يمثل صدمةً بحق.
الذي حصل حصل، لا يمكن إعادة عقارب الساعة للوراء، يمكن أن ندين ونستنكر ونشجب، لكن الذي حصل حصل، والمستقبل أمامنا، وهو الذي يمكن التدخل فيه من أجل حماية الناس وممتلكاتهم، بل لحماية “الشعب من كوارث المستقبل” فنحن شعب يباد، وسياسيوه لا يستطيعون فعل شيء، لأنهم أصبحوا في الحديقة الخلفية لحركة الحياة في العراق. الشعب ضعيف جدا، ومستضعف جدا، ويحتاج إلى عقد اجتماعي أو سلطة قانون حقيقي كما يجري في بلاد الله الواسعة، لكننا ننتقل في حقيقة الأمر من خيبة إلى أخرى، ومن حفرة لأخرى، تجعل مستقبلنا كشعب وكأمة تريد أن تنمو وتبني أجيالها، يجعلنا أمام مجاهيل كثيرة.