بعيدا عن نظرية المؤامرة؛ يخيل للمرء أحيانا أن الأحزاب الشيعية تطبخ سياستها على نار هادئة وتصنع أحداثا تعيدها للصدارة كلما خبت شعبيتها وبدأ الناس ينفضون من حولها، ويبدو أن القصة ليست في التخطيط السليم أو الحكمة السياسية التي تمارسها هذه الأحزاب، التي عجزت عن بناء نظام يوفر لمواطنيه الحد الأدنى من العدالة الإجتماعية والكرامة الإنسانية، وزج بأبناء جلدته في محارق ذهبت بآلاف الشباب ورملت ويتمت أعدادا لا حصر لها من الشيعة، القصة ليست كذلك، بل في التخطيط الإيراني المحكم، إنها مخالب الإمبراطورية وأحلامها اللامتناهية، وحين تكون جارا ضعيفا لقوي صاحب مشروع فلا بد أن تدوسك الأقدام وأن تصبح عبرة لمن لا يعتبر.
ترى هل كان (الحشد الشعبي) استجابة حقيقية لتمدد خطر (داعش) وتقدمه باتجاه بغداد، أم أنها فرصة تاريخية انتهزها صناع الفرص الحاذقين لتنظيم عمل المليشيات وجمعها تحت مظلة رسمية؟ أم كان جزءا من سيناريو محكم الترتيب والمآلات منذ فترة ليست بالقريبة؟ والحقيقة أن التفكير في الإجابة عن مثل هذه الأسئلة سيدخلنا في متاهات لن تنتهي قريبا كما يبدو، لكن الحقيقة المؤكدة الوحيدة في هذا الخصوص الآن أن (الحشد الشعبي) أصبحت قوة تحرسها سلطة الدولة وفتاوى المرجعيات الشيعية، وتوفر لها الغطاء القانوني والشعبي، إنها تقنين لعمل مليشيات كانت خارج القانون ظاهريا على الاقل؛ فأصبحت اليوم تتصدر عناوين الحياة في هذا البلد المنكوب.
لقد كان شعار (تصدير الثورة) الذي رفعه خميني عند وصوله للسلطة شعارا عاما فضفاضا لدى الكثيرين، لكن الحقيقة أنه كان غير ذلك تماما، إنه كلمة السر التي تعني (أيرنة) المجتمعات أو نقل تفاصيل الحياة السياسية والإجتماعية الإيرانية للبلدان التي تطؤها اقدام الولي الفقيه، فلا غرابة إذا أن يظهر لدينا حرس ثوري تحت مسمى (الحشد الشعبي)، ولا داعي للتعجب إن نقلت التجارب الإيرانية السادية في التعامل مع الخصوم عبر التنكيل بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، نسف للمنازل وحرق للحقول واغتصاب وتعذيب لم يعرفه تاريخ أعتى النظم الدكتاتورية، حتى نظام صدام حسين الذي كانوا يحاربونه ويعيبون عليه استبداده وإجرامه.
ويبدو أن نشوة الحكم وسطوته قد أنست الساسة الجدد أنهم يسيرون على خطى من سبقهم بشكل أكثر بشاعة وقسوة، غير أنهم يفتقدون لمشروع خاص يراعون فيه مصالح أبناء جلدتهم، إنهم مجرد ترس في آلة لمشروع إقليمي كبير عنوانه التشيع؛ قشرته مذهبية لكن جوهره فارسي قومي.
الآن يجري اعتبار (الحشد الشعبي) حالة مقدسة فوق كل اعتبارات السياسة، ويتم تقديمهم على أنهم المنقذون الذين ضحوا بأرواحهم لوقف تقدم (التكفيريين النواصب) الذين كانوا يريدون هدم أضرحة النجف وكربلاء، ويبدو ان هذه معضلة جديدة لن تواجه العرب السنة لوحدهم، بل ستصبح عائقا كبيرا أمام كل محاولات التسوية في هذه المنطقة المشتعلة، وورقة جديدة في يد إيران تلعب بها في مغامراتها ومقامراتها الإمبراطورية حول الملف النووي وطموحاتها التوسعية، فمن الذي أدخلنا في هذه المتاهة يا ترى؟ أهو تنظيم داعش الذي ورط المناطق السنية في لعبة الثار والدم الذي لا ينتهي؟ أم هم ثعالب بلاد فارس ودهاتها الذين عرفوا كيف يستغلون فورة داعش ويوظفونها لصالحهم؟!.
إن المنطقة مقبلة على حمام دم كبير سيكون كل ما سبقه مجرد ألعاب هواة، وإن السكوت والتغاضي الغربيين عن الجرائم التي تقوم بها مليشيات الحشد سيؤدي في النهاية إلى خروج الملف العراقي سياسيا وأمنيا من دائرة النفوذ الأمريكي ويحيله إلى مجرد ضيعة للدولة الجارة.
وبعيدا عن مفاجآت السياسة العراقية وصدماتها المليئة بألغاز يقف العقل أمامها حائرا؛ فإن لكل أجل كتاب، وان هذه الفورة ستنتهي وتصبح في ذمة التاريخ، ولكن كيف ومتى وما هو الثمن لذلك؟ وهل سيفهم قادة الشيعة العراقيين أنهم أصبحوا اليوم مطلوبين للثأر في نظر سنة المنطقة والعالم؟ ولماذ لا يتعلمون من تجارب من سبقوهم ويقدموا نموذجا مقبولا محليا ودوليا لبناء دولة يتحقق فيها الحد الأدنى من احترام انسانية الفرد وصيانة كرامته؟.
أنا ادرك أن صوتي –ككاتب مغمور- وأصوات الآلاف بل الملايين من حولي لن تجد طريقها إلى هؤلاء الذين أصمت شهوة الكراسي آذانهم عن سماع أنين وصرخات الضحايا، وأعمت اعينهم عن مشاهد الدخان المنبعث من المساجد المحروقة والذي سيتحول إلى براكين غضب في المنطقة كلها، إنهم لا يدركون أنهم يعبثون ببرميل بارود سيكونون أول ضحاياه حين سينزوي (الآغا) الإيراني متفرغا لمشاكله الداخلية الآخذة في التصاعد، والتي بدأت تباشيرها في الأحواز وبلوشستان.
لن يفلح الساسة الشيعة في تحويل الحشد الشعبي إلى حرس ثوري قطعا، لكن ثمن المحاولة سيدفعه جميع العراقيين من دمائهم وأمنهم وميزانيتهم الخاوية التي تقترب من الإفلاس، في الوقت الذي تلعب فيه نشوة الإنتصار برؤوس الشيعة البسطاء وهم لا يدركون أن قادتهم يسيرون بهم إلى الهاوية، وأن منظمات حقوقية كبرى في العالم توثق الآن جرائمهم وتجمعها لتكون جزءا من الاستراتيجية القادمة -أمريكيا وعربيا- تجاه إيران وذيولها في المنطقة.
سيستمر استنزاف الشيعة والزج بهم في معارك خاسرة، وستظل قوافل النعي تسير إلى مقبرة النجف دون أن يرى أهل الجنوب تنمية أو رخاءا وعدهم به من انتخبوه، وها هي اليمن تستعد لتكون وجهة جديدة للشباب الشيعي، وسيستمر الإستنزاف ويستمر، والخاسر الأكبر فيه هو العراق شعبا ومكانة ومستقبلا.