18 نوفمبر، 2024 7:45 ص
Search
Close this search box.

التناقض

رن هاتف ابنتي في الطرف الأخر من المدينة حيث جامعتها التي تدرس فيها بفرح وسرور كل يوم حسب قولها المستمر. إبنتي وردة متفتحة في بستان فؤادي الذي ينبض بأستمرار. يردد كل حرف من حروف أسمها الذي يدل معناه على اليسر والتساهل في معاملة المخلوقات البشرية. كانت تتحدث معي عبر الهاتف النقال بصوتِ هائج، منفعل كأنها لم تكن قد تعرفت على صديقة في حياتها. كانت تقول ان صديقتها تستمع الى صوتي من خلال مكبرة الصوت الصغيرة في هاتفها وقد تعمدت فتحها كي تدع مجالاً لصديقتها للتعرف على صوتي. كنت كعادتي غير متحفظاً في حواري مع أبنتي التي كنت أطلق عليها دائماً أميرة قلبي الهَرم. إعتادت أن تقول لي بأنني لست هرماً على الاطلاق على الرغم من بلوغي الخمسين من العمر. تخبرني على الدوام بأنني لا زلت أملك روح الشباب لا بل روح المراهقين.

كنت دائماً أنزل الى مستوى عمرها الذي حط على العشرين، أمازحها كثيراً لدرجة أنها كانت تضحك بشكل هستيري كلما ذكرت لها عذاب العشاق والعاشقات التائهين في بحرٍ من الحرمان والتضور جوعاً للوصول الى نهاية المطاف من قصص عشقهم المأساوية. من الجهة الأخرى لهاتف أبنتي سمعت ضحكاتِ متتالية وصوتاً هامساً يُلقن أبنتي بعضاً من الكلمات كي تقولها لي. كانت بيداء صديقتها تطلب من ابنتي أن تسألني أسئلة كثيرة كي تطيل فترة المكالمة. كانت ضحكاتهما تمتزج أحياناً لدرجة إنني لا أستطيع التمييز بين الضحكتين. أخيراً سأمت من هذا الحديث الذي بدأ يتكرر عدة دقائق أضافية الى أن قلت لأبنتي أن تغلق الخط كي لا تنهي كمية النقود المخزونة في الكارت. إندهشتُ حينما سمعت صديقتها تطلب من أبنتي أن تستمر في الحديث على أن تشتري لها كارت موبايل من نقودها الخاصة. بعد فترة وجيزة قالت أبنتي : الى اللقاء يا أبي. اغلقت هاتفي النقال وأنا أشعر بزهو الشاب اليافع الذي لا زال في عنفوان شبابه. كي أكون صادقاً مع نفسي شعرتُ بغبطةٍ كبيرةٍ أعادت لي ذكريات أيامي المنسية حينما كنت طالباً في نفس الكلية قبل أكثر من عشرين عاماً. شعرت وكأن فتاتين في مقتبل العمر تحاولان التقّرب اليّ ومبادلتي أطراف حديثٍ شجيّ. عادت نبضات قلبي تعزف لحناً قديماً لقصةِ حبٍ أكل الدهر عليها وشرب وضاعت وتلاشت مع مرور السنين الطويلة. تذكرتُ عذابي وألامي حينما كنتُ أعد اللحظات والدقائق لأنتهاء المحاضرات كي أذهب سيراً على الأقدام من باب المعظم الى الأعظمية حيث والدة أبنتي تدرس هناك. لا أدري سبب ذلك الشعور الغريب الذي شرع يزحف نحو روحي وكل جزء من أجزاء بدني. أخذت سيكارة من علبة سكائري أوقدتها بتلك القداحة الحديثة التي أشتريتها من المحلات القريبة لمكان عملي وبدأت أنفث دخان سيكارتي في الفضاء الفسيح وكأنني أنفث هموماً وذكريات مطوية بين أزمنة التاريخ الطويل وحوادث القتل والخطف والأغتصاب على طول السنوات التي مرت على بلدي الذي ينزف دماءاً ودموعاً وويلات كل لحظة بعد أن تهاوت أسوار بغداد بعد تلك العاصفة الهوجاء التي جاءت من وراء البحار.

شجرة عملاقة تنتصب في الفضاء الواسع الذي تحيط به النباتات الشاهقة لمكان العمل الذي أعمل فيه منذ أن تهاوت بغداد. كل يوم أسرق لحظة من لحظات الزمن الصعب أجلس تحت تلك الشجرة السامقة أستجدي دقائق قليلة أدخن فيها سيكارتي وأستل ّقلمي كي أبدء بتسطير جزءاً من ذكرياتي المنسية. هذا المكان هو المكان الوحيد الذي أستطيع فيه أن أتكلم بحرية مطلقة مع ذاتي ومع أبنتي من خلال الهاتف النقّال حيث تجلس هي في الطرف الأخر من المدينة حيث جامعتها التي دخلتها قبل شهور قليلة. كلما جلست هنا في هذا المكان – أحاول فيه الهروب من واقع الحياة القاسي وأبدء بمكالمة أبنتي وربما أستمع من بعيد الى دمدمات الطالبات القريبات من مكان جلوسها. كلما تحدثت أليها تهاوت الى مسامعي ضحكات وهمسات صوت صديقتها التي يبدوا أنها كانت تحاول التقرب اليّ بطريقة أو أخرى. في البداية كنت أظن أن ذلك التقرب لم يكن إلا محض صدفة الى أن حدث ما لم أكن أرسم له من قبل.. أو لم يكن يدخل في الحسبان كما يقولون. في ليلة باردة جداً ومطرٍ غزير، كنتُ مستلقياً على فراشي في مكان عملي أستمع الى أصوات قطرات المطر التي تنقر على زجاج النافذة وكأنها مناقير طيور مختلفة تطلب شيئاً ما. دقّ هاتفي النقال بعد منتصف الليل.. ظهر رقماً غريباً بالنسبة لي ينتهي بحرف أو رقم (3) لم أكن قد خزنته من قبل في هاتفي. بقيت أنظر الى الرقم الغريب.. وظل الهاتف يرن ويرن وأنا أنظر أليه دون أكتراث. إعتدت أن لا أجيب على أي رقم لم يكن له حيز في قائمة مخزونات الهاتف. إنقطع رنين الهاتف لأنه على ما يبدو أن الشخص في الطرف الأخر قد سأم الأنتظار.

 إزداد صوت المطر مصحوباً بأصواتِ رعدٍ مدّوية كأنها مدافع هائجة في معركة شرسة بين مخلوقات قادمة من وراء التاريخ. دون سابق أنذار حدث صوت في الأسلاك الكهربائية التي تحيط بالبناية التي أرقد في غرفة من غُرفها العديدة- وحيداً هذه الليلة- فقد ذهب زملائي في أجازة زمنية ولكنهم أحتالوا على مدير العمل المسوؤل عنا جميعاً وأخبروه أنهم سيعودون في صباح اليوم التالي. أنقطع التيار الكهربائي عن كافة أقسام البناية الكبيرة وأصبحت الغرفة تسبح في ظلامٍ دامس. شكراً لزوجتي العزيزة التي كانت قد وضعت بعضاً من قطع- الشمع- في حقيبتي في المرة السابقة لمجيئي الى هذا المكان تحسباً لحدوث حالةٍ طارئة كهذه التي أعيش فيها ألان. أوقدت واحدة من تلك الشمعات وأستلقيت على فراشي القريب جداً من النافذة. كنت أستمتع بمشهد البرق الذي كان يرسل ضياءاً متقطعة بين فترةٍ وأخرى نحو جو الغرفة الذي يسبح في ضوء الشمعة الصغيرة. أما زخات المطر الشديدة فقد كانت تبعث في روحي ثورة من الهيجان النفسي الحزين الممزوج بسعادة نسبيّة. وضعت سيكارة بين شفتّي وعقدت يداي تحت رأسي ورحت أستقطب رشفات متتالية من سيكارتي فينبعث الدخان في ثورة همجية.

رنّ هاتفي النقال مرة أخرى وبيدٍ مرتجفة أطفات سيكارتي في – المنفضة- القريبة من فراشي. كان ذات الرقم قد أرتسم على شاشة الموبايل مرة أخرى. نظرت الى الرقم بتردد بَيْدَ انني قررت هذه المرة الأجابة حتى لو كان ذلك يشكل خطراً على حياتي. في اللحظة التي قلت فيها«الو».  إندفع الى مسامعي صوتاً رقيقاً كأنه همسات لا مبالية تخترق شدة الأمطار وأصوات البرق والرعد في كلِ مكان. بصوتٍ متردد قلتُ :«نعم ، من المتحدث؟». دون توقف أندفع ذلك الصوت الرقيق ينطلق بلا توقف وكأنه سيل من تيارٍ جارف ينحدر نحو قلوب المخلوقات البشرية عبر العصور. «الو أبا شهلاء.. أنا بيداء صديقة أبنتك الوحيدة-شهلاء- . لقد أخذت رقمك منها دون أن تعرف هذا اليوم. طلبت منها أن القي نظرة سريعة على هاتفها فوجدت أسمك وقد كُتب تحت عنوان –أبي- . حفظته عن ظهر قلب بسرعة، المعذرة أرجو ان لا تعتبر ذلك سرقة أو خيانة أو عمل غير نبيل. أنا أحب –شهلاء- لدرجة الموت، هي صديقتي الوحيدة في الجامعة. لا أحد يحترمني سواها.. لا أحد يريد التحدث معي عداها الكل أبتعد عني ونبذني.. الكل يكرهني، لا أدري لماذا؟ ربما لأنني غنية جداَ. ربما لأنني أرتدي ملابس فاخرة جداً. ربما لأنني أمتلك قطع ذهبية كثيرة جداَ. ربما لأن والدي أشترى لي سيارة منذ أن دخلت الكلية. ربما لأنني شاطرة جداً في دروسي – ولكن ليس بشطارة وذكاء شهلاء. الحقيقة لا أحد يستطيع أن يجاريها في أستعدادها لدروسها كل يوم». لم أحاول أن أعلق على كلامها مطلقاً. آثرت البقاء صامتاً كي أستطيع سماع كل حرفٍ من كلماتها التي كانت تتدفق بلا أنقطاع. لم تتوقف عن الحديث وأستمرت في كلامها:« أرجوك لا تخبر شهلاء عن هذه المكالمة لأنها ستكرهني وتتركني كما تركني الجميع. أشعر بوحدة قاتلة في البيت. أمي تذهب ألى الفراش مع والدي مبكراً وأنا الوحيدة لهما. حاولت عدة مرات أن أطلب منهما أن يسمحا لأبنة خالتي أن تعيش معي في البيت كي لا أشعر بالوحدة والعزلة ولكنهما لم يوافقا على ذلك خوفاً من أنشغالي معها وعدم مطالعة دروسي. كما قلت لك أنا وحيدة في هذا العالم وليس لديّ أصدقاء أو صديقات. فكرتُ أن أتخذك صديقاً حميماً لي – عفواً لا تسيء الظن بي – أقصد صديقاً ومشرفاً وأباً وأخاً وكل شيء. سأكون صديقتك من خلال الهاتف فقط ، وصدقني سوف لن أشكل لكَ أي مصدر أزعاج… في اللحظة التي تطلب مني أن أنقطع عن محادثتك سأتوقف فوراً. إذا أخبرت – شهلاء- بذلك فأنني سوف أترك الجامعة فوراً وأقسم لكَ بأنني سأفعل هذا. أنا لا أحتاج أي شيء منكَ ، لديّ نقود.. لدي كل شيء ، ولا أعتقد أنكَ تشكل عليّ أي خطر لأنك أنسان مهذب جداً وهذا عرفته من خلال حديث شهلاء عنكَ كل يوم. لقد أصبحت أعرف عنك كل شيء.. ماذا تحب .. وماذا تكره وكيف تجلس وكيف تنام ومتى تصبح شرساً ومتى تصبح وديعاً . إنني أعر ف حتى العلامات المرسومة على يدك اليسرى والجرح الصغير في قدمك اليمنى. خلاصة القول أعرف عنك كل شيء. لديّ بعضاً من صورك مع –شهلاء- . لقد توسلت أليها أن تعطيني قسماَ من صورك التي ألتقطتها مع شهلاء. . عفواً سأتوقف عن الحديث الأن لأن والدتي تطرق الباب. يبدوا أنها لم تنم بعد.. سأتصل بكَ بعد نصف ساعة». إنقطع الحديث بيننا أو لنقل حديثها معي. الحقيقة كنتُ كمن أفاق من سحرٍ أسود يمزق شرايين الأنسان ويحيله إلى كومةٍ من الرماد. دون وعي قفزت نحو النافذة وفتحتها على مصراعيها كي أستنشق هواءاً بارداً يعيد إلى نفسي القلقة نوعاً من الأتزان الروحي والجسدي. إرتطم الهواء البارد في وجهي فشعرت بقشعريرة لا توصف. تأكدت عندها إنني أعيش في واقعٍ مطلق وليس حلماً مخيفاً. عُدت الى فراشي وأستلقيت على ظهري ونظري مثبت في سقف الغرفة الذي كان يعكس إرتعاشات وإهتزازاتٍ مستمرة لضوء الشمعة الصغيرة.

كان حديث الفتاة – ولنقل بيداء – إذا كان هذا أسمها الحقيقي لا زال يدقُ في ذهني كمطرقة عنيفة. بدأت أنظر إلى عقارب الساعة في إنتظار عودتها للحديث معي. في أثناء ذلك الوقت ذهب ذهني بعيداً إلى عالم من التحسب والترقب. كانت هناك أفكارا كثيرة تدور في ذهني، هل صحيح أنها صديقة أبنتي الوحيدة – شهلاء – ؟ هل ما كانت تحكيه يرسم له صورة على أرض الواقع ، أم أنه مجرد خيال همجي لفتاةٍ تعيش وحدها في عائلةٍ غنية فتشعر بعزلة عن المجتمع الذي نشأت فيه؟ وماذا ترمي من وراء حديثها الجريء؟ إذا كانت مترفة وغنية إلى هذه الدرجة… معنى ذلك أن أبنتي الأن تعاني آلاماً نفسية كبيرة لأنها لا تستطيع أن تجاري هذه الفتاة في عيشتها الفارهة.. معنى ذلك أن أبنتي تنظر لها الأن بحسدٍ دفين. من يدري قد تكون أبنتي قد أتخذتها صديقة حميمة لها لأنها تريد أن تغطي حالة العيش المتوسطة التي تحياها معنا في البيت. يا الهي، من يدري قد ترتكب هذه الفتاة حماقات متنوعة مع أبنتي حيث تصحبها إلى مناطق عديدة بسيارتها. من يدري قد تفقد أبنتي صفاتٍ عديدة كانت قد نشأت عليها في عائلتنا المحافظة نوعاً ما. أصابني قلق وهلع لا يوصف على أبنتي التي هي كل شيء بالنسبة لي. بالتأكيد لا أستطيع أن أمنعها من مصاحبة هذه الفتاة الغنية جداً على حد قولها لأنني كنت ولا أزال أحترم رأيها في الأشياء التي تتخذها إذا كانت لا تناقض تقاليد المجتمع وطريقة الحياة السائدة في بيتنا المتواضع. بَيْدَ أنني على يقين مطلق من أن أبنتي لن تنجرف بهذه السهولة خلف تصرفات طائشة ينبذها مجتمعنا الذي يعتز بتقاليده ومبادئه التي نشأنا عليها جميعاً. ومع هذا شعرت بالحزن الدفين على حالة أبنتي، لأنني أعرف أنها فتاة يافعة وترغب في الحصول على قطعٍ كثيرة من الذهب وملابس فاخرة كهذه الفتاة المدللة الوحيدة لأبويها. من يدري قد تستجدي أبنتي منها أشياء كثيرة لا أستطيع شراءها لها. هذا شيء لا أستطيع تحمله.

لقد بذلت ولا زلت أبذل كل جهدي في سبيل توفير أي شيء تطلبه أبنتي ولكن لا أستطيع شراء سيارة كتلك السيارة التي تملكها هذه الفتاة التي تسمي نفسها – بيداء – . كنتُ أعد الثواني كي تنتهي مدة النصف ساعة. دون سابق أنذار دق هاتفي النقال وظهر نفس الرقم الذي ينتهي بالرقم (3 ). كانت عقارب الساعة تزحف نحو الواحدة والنصف ليلاً.. وزخات المطر متواصلة في ضرباتها الأيقاعية على النافذة القريبة من فراشي كأنها تشاركني قلقي وخوفي من لا شيء ومن كل شيء . شرع الصوت الرقيق ينطلق دون مقدمات:«عفواً، عمو سمير ، لقد تأخرت عليك. كانت أمي تريد أن تطبخ شيئاً بسيطاً لوالدي الذي يرغب في تناول أي شيء حينما يستيقظ حتى لو كان ذلك في منتصف الليل. أحياناً ينهض من فراشه بهدوء ويتوجه إلى المطبخ ويتناول أي شيء في  – الثلاجة – ثم يعود بعد ذلك إلى الفراش. وبعد شهور طلبت منه والدتي أن يوقظها في أي وقت ينهض فيه لأنها تريد أن تجلس معه وتتبادل أطراف أي حديث. مسكينة والدتي إنها هي الأخرى تعيش وحيدة طيلة ساعات النهار. والدي تاجر أقمشة كبير .. يذهب في الصباح الباكر ولا يعود إلا بعد الغروب بساعتين.. لذلك كانت تطلب منه أن يوقظها كي تجلس معه أطول فترة زمنية ممكنة. الحقيقة والدي مؤدب جداً ويعامل والدتي بأحترامٍ ليس له مثيل. والدي أباً رائعاً ربما مثلك أو شيء من هذا القبيل. ولكنه غير منفتح معي كما تفعل أنت مع – شهلاء – كم أتمنى لو أن لي أباً يشبهك! صحيح أن حالتنا المادية أفضل بكثير من حالتكم ولكنني كنتُ أبكي مع نفسي كثيراً حينما تحدثني – شهلاء- عنكَ عندما تعود في أجازةٍ من العمل. حقاً أنها لفتاة محظوظة. ولو أنها تشكو منكَ أحياناً حينما تجبرها على الجلوس معكَ عندما تتناول الطعام وتشعر أنت بالغضب أذا تأخرت عن ذلك. كنتُ ألومها وأحسدها على ذلك الوالد. كم أتمنى أن يجلس والدي معي ويشاركني مشاعري وهمومي… أتمنى أن أحكي له عن كل ما يجري في الجامعة وأحدثه عن دروسي وعن الطالبات والأساتذة والطلاب. لكنه دائماً بعيد عني جداً. نعم هو يعطيني كل شيء… أي مبلغ أطلبه ولكنني أريد أباً وليس نقوداً متواصلة.آه. كم أتمنى أن يكون لي أباً … أقصد أباً مثلك. أريده صورة منك… يشبهك في كل شيء… في ثورة الغضب التي تسيطر عليك عندما يحدث شيئا صغيراً لا تحبه، وثورة الضحك التي تنتابك لأي شيء… لكن لا يهم كل واحد منا له حياته وظروفه.. أعرف أنك ستذهب في أجازة إلى البيت بعد ثلاثة أيام. لن أطلبك عندما تكون في أجازة إحتراماً – لشهلاء ووالدتها- . وأنا لست من تلك الفتيات اللواتي يتلفنّ في الليل لغرض تبادل حديث فاحش مع بعض الشباب الضائعين أعوذ بالله من ذلك

أنا أبحث عن أخ ، عن أب، صديقاً روحياً يشاركني همومي وأفراحي . سأطالع دروسي بجدِ شديد في النهار كي أستطيع التفرغ للحديث معك في الليل. أرجوك لا تحرمني من هذه النعمة التي أعيش فيها الأن . إذا عرفت شهلاء بهذا الحديث سأترك الدراسة إلى الأبد أو أنتقل إلى جامعة أخرى أو ربما أسافر إلى خالتي في السويد. ستتألم –شهلاء- كثيراً أذا عرفت بهذا الحديث. إنها تغار عليك بشكل جنوني. كنتُ أحياناً أمازحها وأقول لها:« لماذا لا تزوجينني من والدك كي نعيش في بيتٍ واحد؟». كانت ترتسم عليها علامات غضب شديد ويحمّر وجهها الناصع البياض وتقول لي بأنها ستتركني إلى الأبد إذا تكلمت بكلامِ من هذا القبيل حتى لو كان مزاحاً . كنت أضحك عليها ولغضبها الطفولي البريء . كلما أردت منها شيئاً ما وهي ترفض أبادرها بالقول«أنا أعشق والدك وسأتزوجه إنْ لم تفعلي ما أطلبه منكِ». كانت تركض خلفي في حديقة الجامعة وأحياناً تمسك شعري بشدة وتقول لي بأنها ستمزقه إذا كررتُ ذلك المزاح. كانت لا تترك شعري الطويل إلا إذا قلت لها بأنني لن أفعل ذلك مطلقاً. كنا نجلس أحياناً فوق العشب الأخضر وننفجر بضحكاتٍ هستيرية، بعض الطالبات يستهزئن بنا ويعتبروننا مجنونتان.

على الرغم من أنني أغنى بكثير جداً من شهلاء ولكنها تشتري لي كل يوم طعاماً من مطعم الجامعة، إذا حاولت أنا الدفع لها ترفض بشدة ولا تتناوله أبداً. كم أتمنى أن أشتري لها أي شيء ولكن هذا ضرباً من ضروب المستحيل. كانت تقول لي بأستمرار:«أعرف أنكِ غنية جداً ولكن والدي يستطيع أن يوفر لي مصروفي اليومي وحتى مصروفكِ».كانت تشعر بالخجل إذا دفعت لها ثمن أي مشروب، وتقول لي بأنها لا تريد أن تظهر أمام الطالبات بأنها أفقر مني ولا تريد أيّ واحدةٍ منهن أن تهمس لصديقتها الأخرى أن شهلاء طامعة في نقود بيداء وسيارتها الفارهة . كل يوم أطلب منها أن أقلها بسيارتي الى بيتها ولكنها كانت تقول لي بأن ذلك كبعد السماء عن الأرض لدرجة أنني أصبحت أكره سيارتي وأذهب الى الجامعة في (باص- المصلحة)، كي أخرج معها بعد انتهاء الدوام الى محطة الباص ومن هناك نفترق… آه… كم أن شهلاء جميلة ومؤدبة، وكم أتمنى أن تكون لي شقيقة مثلها». حاولت أن أقاطعها كي أقول لها أي شيء ولكنها طلبت مني الصمت لأنها لم تتحدث الى رجل – أي رجل – منذ زمنٍ بعيد وخصوصاً إذا كان ذلك الرجل والد شهلاء على حد قولها. شعرتُ بالحزن عليها ولا أدري لماذا. هل أن كل ما كانت تقوله حقيقة أم أن ذلك مجرد وهم أو خيال يرتسم في ذهنها وعقلها اللاواعي وتريد أن تصدقه أم أن هناك هدفاً خفياً. دون سابق أنذار قالت«صديقي العزيز، عفواً عمو العزيز لقد أصبحت الساعة الأن الثالثة والنصف صباحاً لذلك يتحتم علىّ الخلود للنوم، لديّ دراسة غداً ولا أريد أن أتاخر . كل أنسان لديه سر في حياته وهذا هو سري معك وسرك معي… إذا أخبرت أحداً بذلك فستكون أنت غير أمين على أسرار الأخرين وهذا ما لا أريد أن أتصوره عنك… لا تتصل بي مهما كانت الظروف أنا التي سأطلبك، هذه قصتي ولا أريد لأيّ أنسان أن يخترقها ، لن أخبر أي شخص عن هذا السر حتى لو كانت والدتي. أريد أن أعيش في خيالٍ دائم فقد سأمت حياة الواقع المرير الذي أعيش فيه الأن. سأمت من هذا المكان المليء بالتناحرات والصراعات في كل مكان. أريد أن أتحول الى مخلوق بشري خيالي حالم كي أهرب من العذاب الذي أعيشه في عزلتي هنا في هذا البيت الكئيب على الرغم من الثراء الفاحش وعظمة الأثاث المنتشرة في كل ركنٍ من أركانه وزواياه. حقق لي هذا الحلم ودعني أحلقّ فيه كل ليلة معك.. لا أريد منكَ شيء سوى الأصغاء لما أقوله لك، لن أكلفك شيء. كل شيء في حوزتي، قطع ذهبية لا تعد ولا تحصى. بالمناسبة أذا أحتجت أي مبلغ مهما كان … إرسل كلمة أو كلمتين في رسالة وقل فيه«أريد المبلغ الفلاني» وسأحققه لك على الفور. الأن أستطيع القول إلى اللقاء في الليلة القادمة. ستكون أمامي ليلتين للحديث معك بعدها سأنتظر عودتك إلى العمل الذي ستبقى به أسبوعين. بالمناسبة سأكون بمثابة دمية أو لعبة تتسلى فيها لحين ذهابك إلى البيت ولقاء زوجتك وإبنتك وولديك الجميلين.  إلى اللقاء».

أغلقت الهاتف دون أن يتسنى لي قول كلمة إلى اللقاء. إنقطع صوتها وخيم على الغرفة جوّ من الصمت الرهيب، إلا أن روحي وجسدي كانا يعومان في ثورة منٍ الهيجان المرتعش. كان هناك صوتاً نائياً يطرق في ذاكرتي.. في كل جزء من أجزاء جسدي المرهق… يصرخ.« ما هذا الذي يجري معي؟ كنتُ أسبح في صخبٍ مميت. ماذا أفعل تجاه هذه المخلوقة التي قذف بها الزمن إلى حياتي الهادئة؟. إنها أمواج متكسرة في محيط روحي المضطربة. هل أغير رقم هاتفي وأتركها وحيدة في عالمها الخيالي أو ربما الواقعي؟ هل أهرب منها كي لا تتمادى في عاطفتها الجانحة؟. من يدري ربما أنها متأثرة بقصة – حصاد الحب – أو ربما شاهدت مسرحية في زمنٍ ما وتريد أن ترسم لنفسها دور البطلة الشابة التي تقع في هوى رجل مسن؟ . آه..  وزوجتي ماذا سأقول لها ؟ ستكتشفُ هذه الحكاية المأساوية في اللحظة التي تطأ فيها قدماي عتبة الدار بمجرد نظرة واحدة إلى أعماق روحي عندها أعترف لها بكل شيء .. هذا ما تعودت عليه طيلة حياتي ، مجرد سؤال واحد منها «ماذا حدث لك خلال الأسبوعين الماضيين عندما كنت بعيداً عن البيت؟»عندها أبدأ بسرد كل شيء لها كان قد حدث في العمل ، في الشارع، في كل مكان ! ولكن هذه المرة تختلف الحكاية.

لقد ائتمنتني تلك الفتاة على سرها فهل يحّق لي البوح به بهذه السرعة؟ ماذا ستقول عني أذا عرفت ذلك؟. هل ستتهمني بالجبن وضعف الشخصية وعدم الالتزام؟. حياتي كلها كانت بسيطة ومتواضعة بَيْدَ أنني أشعر الأن  بثقل المهمة التي أوكِلت إلىّ من قبل هذه الفتاة المجهولة بالنسبة لي … المعلومة بالنسبة لأبنتي.. حاولتُ الخلود للنوم ولكنني بقيت أتقلبُ على فراشي حتى الصباح. دون وعي خطفتُ الهاتف النقال وبدأت أكتب رسالة قصيرة إلى  – أميرة فؤادي الهرم – أقصد أبنتي.«أنا في شوقٍ لا يوصف لمشاهدة بياض خدّيك الناعمتين وعينيك التي أسبح فيهما كلما شعرت بالحزن والعزلة والوحدة والضياع. أنا في شوق لتقبيل عينيك التي أجد فيهما حياتي كلما شعرت بالهرم وتقادم السنين… إلى اللقاء». بدأت العصافير تزقزق معلنة قدوم الصباح وأنا لا أزال طريح الفراش أفكر وأضرب أخماس بأسداس. ماذا أفعل وكيف أتصرف حيال هذه الفتاة القادمة من أعماق المجهول والزائرة غير المتوقعة إلى حنايا روحي. إنقضى النهار وحلّ الليل من جديد ولكن هذه الليلة ستكون عصيبة إنّ بدأت بالأتصال مرة أخرى. ستكون الغرفة مزدحمة بالشباب الذين يعملون معي. إذن لن أستطيع الحديث معها بحرية تامة، سوف يسمعون ما يدور بيننا ، سوف يسخرون مني ، سيقولون أنني أصبحت مثلهم أحادث الفتيات بعد منتصف الليل. هذا ما يفعله كل واحدٍ منهم. يجب أن أجد طريقة أخرى للهروب من هذه الغرفة طيلة الليل أو لنقل طيلة حديثها معي. عند الساعة الحادية عشرة ليلاً أخبرت زملائي في الغرفة التي يشاركونني فيها المنام بأنني ذاهب إلى غرفة المطالعة في الطابق الأرضي. تمنوا لي الموفقية لأنهم أعتادوا على ذلك طيلة أيامٍ كثيرة. لم أذهب إلى المكان المخصص للمطالعة، توجهت إلى شجرة السدر الشاهقة والتي تتوسط فناء البناية الكبيرة. كانت تحت تلك الشجرة أربع مناضد كبيرة قد تم تخصيصها لأؤلئك المدخنين أمثالي. لا يحق لأي موظف التدخين في أي مكان عدا هذا الجزء من المكان. جلست وحيداً أرتشف سيكارتي أنتظر مكالمتها. كان الجو صافياً آنذاك في ذلك اليوم والبرودة تنفذ إلى أعماق الأجساد. كنتُ جالساً وحيداً كمشرد بلا وطن. فجأة دق هاتفي النقال. راحت تتحدث عن أشياء كثيرة، عن يومها الطويل في الجامعة وعن بعض المفارقات التي حدثت أمامها على الطريق الطويل من وإلى بيتها. إستمر الوضع على هذا المنوال طيلة الليالي الثلاثة قبل قدوم أجازتي التي كنتُ أنتظرها بصبرٍ نافذ وتلهفٍ لا مثيل له من قبل.

وجاء الوقت المخصص لأجازتي، أنطلقت إلى البيت في الصباح الباكر. كان ذلك الصباح يختلف عن باقي الأيام، كنتُ أنظر هنا وهناك لعلي أشاهد فتاة تقود سيارة فارهة أو شيء من هذا القبيل. كان ذهني يسترجع كل الحوار الذي دار بيننا طيلة الأيام الثلاثة الماضية. حينما وطأت قدماي عتبة الباب إندفعت أبنتي شهلاء تعانقني بحرارةٍ وشوق. كلما نظرت إلى وجه أبنتي أستذكر كل كلمة من كلمات تلك الفتاة التي تدعي بأنها صديقة أبنتي الوحيدة. كان هناك صراعاً دفيناً يغلي داخل حنايا روحي المرهقة من شدة التفكير . أردت أن أعترف لزوجتي وأبنتي ، بَيْدَ أن كلماتها الاخيرة قفزت إلى ذهني وتذكرت أنها أقسمت لي بأنها ستترك الجامعة وتدعوني عندها بالخائن لمبادئ حفظ الامانة الذي ليست له القدرة على حفظ الاسرار.

بعد العشاء بقليل جلست مع أبنتي وزوجتي نشاهد بعضاً من برامج التلفاز. كنت أنظر إلى الشاشة الصغيرة دون أن أرى أي شيء فقد كان ذهني بعيداً هناك يخاطب تلك الفتاة. نظرت إلى أبنتي التي كانت تطالع دروسها بصمتٍ قدسي. فجأة رفعت رأسها وتلاقت نظراتنا وفي لحظةٍ فهمت أن هناك شيئاً ما يدور في ذهني . إبتسمت كعادتها وقالت بصوت طفولي( ماذا ؟ أعتقد أنك تريد أن تقول شيئاً ما، اليس كذلك يا أبي؟) نظرت أليها ثم قلت بلا تفكير:«كم صديقة لكِ في الجامعة؟؟».«أقصد الصديقات المقربات جداً إلى قلبكِ. أريد أن أسمع أي شيء منكِ عن أي صديقة لكِ». وبلا توقف وبسرعة البرق  راحت تعدد لي أسماء كثيرة ولكنها قالت بلهجة تشوبها نوعاً من علامات الحزن:«هناك صديقة واحدة أفضلها على باقي الصديقات جميعاً… صحيح أن حالتها المادية مزرية جداً ولكنها رائعة في كل شيء.». قاطعتها على الفور:«ما أسمها؟ هل هي جميلة مثلكِ ؟ هل هي مؤدبة؟ هل لديها أب وأم ؟ هل هي شاطرة مثلكِ ؟ أريد أن أعرف كل شيء عن صديقتك هذه، لأن القول المأثور يقول:«قل لي من صديقك أقل لك من أنت؟ نظرت إلىّ بتحفر وكأنها كانت تريدني أن أسمع كل شيء عنها. نظرت زوجتي نحوي ومن ثم إلى شهلاء مبتسمة وقالت:«لماذا لا تترك الفتاة تدرس؟ إذا بدأت بالكلام فأنها سوف لن  تتوقف أبداً .. سيمضي الوقت دون فائدة». وعادت تطرز قطعة القماش الصغيرة التي كانت قابعة بين أناملها .أغلقت شهلاء كتابها وزحفت مقتربة من المدفأة التي كانت تتوسط غرفة الأستقبال حيث كنا نجلس نحن الثلاثة . مدّت يديها الشديدتا البياض نحو المدفأة وكأنها كانت تستجدي دفئاً روحياً في ذلك اليوم “الزمهريري”. دون أن تنظر إلىيَّ بدأت تتحدث وهي تفرك إحدى يديها بالأخرى:

«أسمها بيداء، أكبر مني بسنةٍ واحدة. ليس لديها أب. كان قد قُتل في الاحداث التي عصفت ببلدنا قبل سنوات بعيدة. تسكن في أفقر جزء في العاصمة. تعيش مع والدتها في غرفةٍ واحدة في أحد المنازل. تركت مع والدتها بيتهما القديم الذي قتل فيه والدها العامل في دائرة البريد. هربت مع والدتها من ذلك البيت لأن ذكريات والدها فيه كانت تقض مضجعها مع والدتها. أرادتا الهروب من أي شيء يذكرهما به. أمها تبيع الخبز للبيوت المجاورة في نفس الحارة . بيداء تساعد والدتها حينما تعود من الجامعة. أمها كتبت قطعة على جدار البيت الخارجي كإعلان يقول:«أم بيداء تبيع الخبز 24 ساعة.». تبقى بيداء تبيع الخبز إلى ساعة متأخرة من الليل. إعتادت البيوت أقصد العوائل القريبة أن تدق بابهم ليلاً ونهاراً. الأم لا تستطيع السهر طويلاً لأنها تعمل في الصباح وتعد الخبز ولذلك تركت أبنتها تقوم بهذه المهمة الصعبة.

تبقى بيداء طيلة الليل تدرس محاضراتها وتبيع الخبز كلما طرق شخصاً ما بابهما. تعرفت عليها في اليوم الخامس من التحاقي بالجامعة. شاهدتها تترك قاعة المحاضرات بعد انتهاء الوقت المخصص للدراسة وتهرب بعيداً عن قاعة الدرس. تجلس وحيدة في زاوية من زوايا المساحة المخصصة للطالبات ولا تتكلم مع أي طالبة حتى لو حاولت أحدى الطالبات التقرب منها. تنهض صامتة وتذهب إلى مكانٍ أخر. تقربت منها. جلست قربها في أحد الأيام ثم بدأت أحدثها عن نفسي وعنك وعن كافة أفراد عائلتنا. أحيانا كنت أحدثها عن طرائف وحكايات مختلفة أي ليست لها واقع. بدأت تنظر إليَّ بفضول وإندهاش وفي النهاية ضحكت وهذا ما لم أكن أتوقعه مطلقاً.

قالت لي بأنها تخاف أن تتقرب من أي طالبة أخرى لأنها فقيرة وتشعر بالحرج من أن تكتشف أحدى الطالبات الحياة الصعبة التي تعيشها مع والدتها. طلبت مني أن أقسم امامها أن لا تخبر أي طالبة عنها. حينما أطمأنت لي راحت تحدثني عن كل شيء. أحببتها لأنها تناضل من أجل لقمة العيش إضافة إلى أنها ملتزمة بالمبادئ الإسلامية وتصلي بانتظام. دعوتها لتناول بعضا من المشروبات الغازية عدة مرات .أشتريت لها ثلاث قطع قماش من نقودي التي تعطيها أنت لي. قالت لي مرة بأنها لا تستطيع أن تشتري لي أي شيء في الوقت الحاضر. تحلم دائماً ان يكون لها أباُ يشبهك، فقد شاهدت صورك جميعاً معي ومع والدتي. كانت تبكي كلما نظرت إلى صورة من صورك وتقول:«لماذا ليس لي أباً مثلكِ؟ لماذا انا يتيمة وفقيرة؟».

الغريب أنها ذكية وشاطرة جداً. دائماً تتفوق عليّ بدرجة أو درجتين. طلبت مني مرة أن أعطيها رقم هاتفك وعندما سألتها عن السبب قالت، من يدري قد أحتاج والدك لأنقاذنا من مشكلة أو قد تتعرض والدتي لنوبة قلبية ونحتاج إلى من ينقلها إلى المستشفى، ليس لدينا أي شخص نعتمد عليه في هذه الحياة فلماذا لا يكون والدك هو الذي يساعدنا. في البداية رفضت إلى أن وافقت والدتي على ذلك عندها أعطيتها رقمك”. سكتت بعض الوقت حينما دخل ولدي الكبير كي يأخذ كتاباً من تلك الكتب المرصوصة بتناسق على المنضدة القريبة من الزاوية اليسرى للغرفة. في اللحظة التي خرج فيها نهاد . إندفعت شهلاء في حديثها وهي تقول هذه المرة بلهجةٍ يشوبها جزءاً من حياءٍ دفين:«بالمناسبة لقد علمتني أنت على قول الحقيقة حتى لو كانت صعبة. لقد شاهدها شقيقي نهاد حينما كان يأتي لزيارتي في الجامعة. لقد قال لي بأنها جميلة جداً ولكنها تنتمي إلى طائفةٍ أخرى أخبرني بأنك لن توافق على زواجه منها إذا فكر بالزواج منها. أصبح نهاد يأتي لزيارتي في الجامعة مرتين في الأسبوع كي يتحدث معها. الغريب في الأمر أن بيداء بدأت تتحدث معه بلهجةٍ غير متكلفة لدرجة أنها قالت له مرة ضاحكة أذهلت شقيقي وفغر فاه :«من الأفضل أن تهتم لدروسك ولا تبني أحلاماً للزواج مني لأنني فقيرة ومن طائفة أخرى وهذا شيء مستحيل بالنسبة لكَ ولي. أنا ليس لديّ مانع ولكن والدك لن يقبل شيئاً كهذا. لذلك لا تتعب نفسك بالمجيء والتظاهر بزيارة شهلاء.»

في البداية أحمّر شقيقي خجلاً وشاهدتُ عدة قطرات عرق تتصبب من جبينه ولكنه تمالك نفسه وقال ضاحكاً« سأتزوجكِ حتى لو أضطررت لقتل كافة أبناء عشيرتي وعشيرتك. أما زيارتي لشقيقتي فليست لرؤيتك، ولكن طالما أنتِ جميلة جداً فلماذا لا أمتّع نظري بهذا الجمال الخلاّب؟». في تلك اللحظة تحول وجه بيداء إلى لون شديد الأحمرار ، وأرتبكت قليلاً وبعد أن تمالكت نفسها قالت له:«عفواً كنت أمزح معك ». منذ تلك اللحظة لم يعد نهاد يأتي لزيارتي ولا أدري لماذا؟. دون وعي قلت لأبنتي :«قولي لي الحقيقة دون لف ودوران، هل يرغب نهاد بالزواج من بيداء». نظرت شهلاء إلى زوجتي وكأنها تأخذ رأيها في الأجابة على هذا السؤال المصيري. أومأت زوجتي بطرف عينيها وفهمت شهلاء ما كانت ترمي أليه والدتها. دون تردد إندفعت شهلاء تتحدث بأنفعال وهيجان ملحوظ «نعم.. نعم.. إنه يحلم بها ليلاً ونهاراً ولكنه لا يستطيع أن يفاتحك بهذا الامر أبداً لأنه يعرف سلفاً بأنك لن توافق. كان دائماً يتوسل إليَّ أن أخبرك عن هذا الموضوع ولكنني مترددة في ذلك. لقد تحدثت أليها عن رغبة شقيقي للزواج بها وقالت لي بأنها توافق أذا وافقت أنت.» طلبت من أبنتي أن تتوقف عن هذا الحديث وتجلب لي قدحاً من الشاي. في الحقيقة كنتُ أريدها ان تذهب إلى المطبخ كي أتحدث مع زوجتي عن بعض الأمور. حينما ذهبت شهلاء نظرتُ إلى زوجتي التي فهمت على الفور ما كان يدور في ذهني. إبتسمت دون ان تتفوه بحرفٍ واحد. حينما عادت أبنتي مع قدح الشاي قلت لها على الفور:«هل لديك رقم تلفون بيداء؟ هل أستطيع أن اتحدث معها الان لمدة نصف دقيقة؟.». قفزت شهلاء وقدمت لي رقم هاتفها. نظرت إلى الرقم ، كان نفس الرقم الذي كان يظهر على شاشة هاتفي النقال. قلت لأبنتي :«إطلبيها بهاتفك كي تجيب على الهاتف، من يدري قد لا تجيب إذا شاهدت رقم هاتفي».

 

بعد لحظات كان هاتفها يدق عدة دقات وفي النهاية جاء إلى مسامعي نفس الصوت المألوف. لم أقل شيئاً في البداية ظلت تقول:«الو.. الو..» وفي النهاية قلت لها دون مقدمات:«الو..  أنا والد شهلاء وقد وافقت على زواجك من ولدي نهاد أو زواج نهاد منكِ..إلى اللقاء». نظرت أبنتي إلىّ بأندهاش وهي تقول:«بابا .. لماذا أنت جاف هكذا؟ لماذا أقفلت الخط بهذه السرعة؟ ماذا ستقول عنك»أبتسمت لها وخرجت من غرفة الاستقبال نحو حديقة الدار كي أدخن سيكارة لأن شهلاء لا تقبل أبداً أن أدخن في الدار.

أحدث المقالات