صديقي العزيز :
وصلتني صورك الباهرة والتي تظهر حياتك في اوربا وتطوافك في قارات العالم الخمس . لا أملك يا صديقي سوى الدعاء ان يديم الله عليك هذه النعمة . تمعنت طويلا فيك . اول شئ هزني هو وجهك ولون شعرك اللذان لم يتغيرا قيد شعرة . هذه العبارة لا أقولها مجازا بل أعني كل حرف فيها . وهي ليست أطراءا ( كما هو معتاد عندنا ) بل شئ أربكني تماما . لاحظت أنك لم تكبر أطلاقا . ما الحكاية يا صديقي , هل الزمن متوقف عندكم ؟ . هل لهذا علاقة بالمغناطيسية ؟ فقد سمعت ان عقارب الساعة لا تتحرك حين تكون قريبة من القطب الشمالي . لم الحظ ذلك وحدي بل أهلي ايضا , فقد افترقنا ونحن بعمر واحد , لكنهم يؤكدون لي ( وهم يتأملون صورتك ) ان الفرق بيننا الآن هو 20 عاما وهو نفس الزمن الذي مضى على هجرتك .
الا تخشى يا عزيزي ان تظل هكذا الى الأبد ؟
الا تخاف ان تظل متوقفا عند هذا الحد فلا تذوق لذة المراحل الأخرى من العمر ؟ . ألا تخشى ان تصاب بالملل من جسد لا يشيخ ؟ وماذا تفعل حين تراودك الرغبة في الموت بينما جسدك بكامل عافيته ؟ . هل ستقدم على الأنتحار ؟
أنصحك ياصديقي أن تبتعد عن القطب الشمالي لتسمح لساعتك بالدوران .
….
….
سوف احدثك قليلا عن نفسي . لابد أن أخبرك أنني تزوجت . هل تعرف ممن تزوجت ؟ . تزوجت الأفلاس . انا أضاجع الأفلاس يوميا . هل تتخيل؟ . كلما مددت يدي في جيبي أشعر بنوع من الأنتصاب العدمي . الافلاس شئ قبيح يا صديقي , حين يطول تظهر آثاره على الوجه . لا اقدر ان ابعث لك صورة لوجهي . سوف تستغرب التبدل الذي طرأ علي . ولا اريد ان احطم الصورة التي تركتني عليها . ربما لن تعرفني , واخشى ان اسبب لك الذعر .
(( اصبح وجهي يشبه الجرادة ياصديقي )).
تركتني وانا أشبه خالي المرحوم ( فائق ) . لكنني الآن لا أمت بصلة اليه .
لقد ولدت حسب رغبة أمي ( ثلثين الولد على خاله ) . لكن ثلثي خالي اختفى وحل محله وجه حشرة .
أخذني والدي الى الطبيب . وضعنا امامه صورتان قديمتان واحدة لي والأخرى لخالي كي يرى اوجه الشبه . انظر يا دكتور . كنا شبه متطابقين او لنقل ان هناك ثلثين مني مأخوذ من خالي .
(( لا أعرف ماذا جرى لي يا دكتور ؟ ))
لم أعد أملك حتى واحد بالمئة من خالي . ولو نهض من قبره وشاهدني فسوف يتبرأ مني .
لم يبدي الطبيب أستغرابا . قال ان هذا الأمر طبيعي جدا ولا يدعو للقلق . أمرني ان اخلع جميع ملابسي وأبقى باللباس الداخلي . لم يفحص الطبيب وجهي ولا قاس ضغطي وحرارتي . لم يخرج سماعته ويضعها على صدري . لم يفحص عيني ولا أذني . تركني عاريا وانقض على ملابسي . راح يفتش في جميع الجيوب . لنقل أنه نفضها نفضا . سألني أن كان هناك جيوبا داخلية في ملابسي . أجبت بالنفي .
سألني هل أنت مفلس ؟ . اجبت نعم يا دكتور . قال : (( وهذا ما توقعته , كل المفلسين لهم وجه الجرادة ))
ثم أمرني ان أرتدي ملابسي , وخاطبني قائلا :
(( لا تقلق وسوف يعود لك وجه خالك حالما تتحسن حالتك المادية )).
لم يكتب لي اي دواء ونصحني بالبحث عن عمل .
رحت اتردد على مقهى المفلسين لصاحبها ( أبو ذنون ) . وجدت هناك أرائك خشبية عتيقة تحتلها وجوه جراد أخرى بجيوب خاوية تعشعش فيها العناكب . كانوا يقطعون صمتهم الطويل بأقداح الشاي التي يقدمها لهم ابو ذنون ثم يقيدها في دفتر الديون الذي يشبه في شكله وحجمه السجل العقاري ( سجل الطابو ) . فتح ابو ذنون صفحة لي وسجل اول قدح شاي بالدفع الآجل . كان جلوسي في المقهى يخفف من وطأة الوجه الذي أحمله . لم اعد اجرؤ على النظر في المرآة واتحاشى عيون الناس و خصوصا عيون النساء . وقطعا لا اقدر ان ابادلك الصور التي ترسلها الي .
ما أن انهيت قدح الشاي , حتى شاهدت صبيا يدخل المقهى حاملا ( بسطة ) لبيع سجائر بالمفرد . أردت ان أشتري سيجارة . مددت يدي الى جيبي فشعرت بلسعة نار حارقة .سحبت كفي من جيبي فوجدت عنكبوتا ينبت أسنانه في لحمي . نهضت من الأريكة ورميته بعيدا . كان الألم فضيعا . خجلت ان اصرخ وسط المقهى . رفعت أصبعي الدامي فرآني صاحب المقهى وهرع الي بزجاجة كولونيا وقطن طبي . نظف الجرح وغطاه بقطعة قماش ( شاش ) وقدم لي نصيحة لتفادي عض العناكب في المستقبل :
(( البس ثيابا بلا جيوب او ابحث عن عمل )).
أشار ابو ذنون علي ان أذهب الى وسط المدينة (باب الطوب ) واعرض ذراعي في وقفة (مسطر) العمال . قال أجلس هناك وستجد من يشغلك .
جلست في باب الطوب اربعة عشر يوما متتاليا أنتظر من يشغلني . كنت أقف من الساعة السابعة صباحا وحتى الثانية ظهرا دون جدوى . لم يأت من يشغلني .
في اليوم الرابع عشر وقبل ان انسحب لأعود الى البيت تقدم مني احدهم وسألني ان كنت قادرا على العمل خمسة ايام في الاسبوع . صحت دون تردد نعم . وقفت وامتلأت نشوة وحماسا واضفت :
((طبعا أنا حاضر وعلى الفور )).
فسألني ان كنت قد اشتغلت هذه الشغلة من قبل . قلت انا حاضر لأي عمل تطلبه .
قال : ((هل تقدر ان تنام معي خمسة ايام في الاسبوع ؟ )).
اتضح انه لوطي . وهو بالتسمية المحلية ( دودكي ) اي العنصر السالب . وكان يبحث عن الموجب . اعتذرت له بلطف . قلت له انا ما زلت باكرا . وافضل ان ابتدأ حياتي الجنسية بفرج أمرأة . فانصرف بلطف باحثا عن عاطل آخر .
لم تعد الدولة ملزمة بتقديم العمل . لقد تغيرت وظيفتها . يقول المسؤولون ان وظيفة الدولة الجديدة هي أدامة الحزن وصيانة البنى التحتية له . هناك وزارة خاصة بالنواح . بامكاني أن أتعين فورا أذا أبتكرت طريقة جديدة لاستدرار الدمع وسكب المرارة في النفوس .
هناك فرص عمل أخرى خارج الدوائر الرسمية تتطلب مهارات نفسية لا أملكها مثل زرع عبوات ناسفة , او الخطف , او استخدام الكواتم , أو تسميم المياه , او سرقة الادوية , أو أسرة المرضى وهم نائمين في المستشفيات وتهريبها الى أيران .
نصحني صاحب المقهى ان أترك مشاريع الدولة و أبتكر فرص عمل جديدة .وجدت ان أهل الجنوب يحرمون على أنفسهم أكل الاعضاء التناسلية للغنم ويرمونها مع الفضلات بينما أهل الموصل يستطعمونها ويعتبرونها الأطيب في الأغنام و يسمونها ( حليوات ) . فرحت أتاجر بها . وجدت ان الكرد يرمون بيوض السمك ( الثرب) في المزبلة فحمدت الله على هذه العادة و صرت اجمعها من مزابل بائعي السمك في اربيل والسليمانية وأبيعها في بغداد . وجدت اليزيديين يزرعون الخس ولا يأكلونه لأن نبيهم اختبأ فيه حين طارده الاعداء فكانوا يهبونه لي مجانا . وتاجرت بالعرق المحلي المصنوع في القرى المسيحية لكن جماعة النهي عن المنكر شموا رائحته و القوا القبض علي متلبسا بشحنة خبأتها في حقيبة واحرقوها أمامي . وكان علي ان افتش للصابئة عن البط لعيدهم بعد تجفيف الاهوار .اصبحت الفوارق المذهبية ومحرمات الأديان مصدر رزقي . غير ان دخول داعش الى الموصل قضى على تجارتي . فتوقفت كليا وعدت الى الأفلاس من جديد .
….
….
صديقي العزيز:
صورك عن حياتك في اوربا هي اكثر من رائعة وتعوض الكثير من الجدب الذي نعيشه . ارجو ان لا تتوقف عن ارسالها. قبل أسابيع عملت معرضا لصورك في البيت . لصقتها على ورق كارتون وعلقتها في غرفة الضيوف . حضر الأهل والأقارب للتفرج عليها . وقفوا مبهورين أمام الحفلات التي تقيمونها في المهجر , والموائد المليئة باصناف الطعام والشراب و الغناء والرقص , والألعاب النارية في رأس السنة , وركوب المناطيد الهوائية , وصورك المتكررة مع العوائل في مدن الألعاب والسيرك , وصور الاطفال وهم يحتضنون الدلافين والثعابين الغليضة التي جعلت اطفال اخوتي يتقافزون من الحماس , وحفلات أعياد الميلاد والكيكة الحلزونية التي تشبه ملوية سامراء والتي كاد اطفال اخوتي أن يثقبوا الصورة بعيونهم لأنتزاعها .
أما صورك الشخصية فقد تلاقفتها الأيدي أسرع من غيرها . اخواتي الأربع حلمن بك جميعا . بقوا الليل بطوله يتأملونك . وفي الصباح فاتحني والدي في امكانية ان تتزوج واحدة او اثنين منهن . بل ان والدتي قالت ان الشرع يبيح حتى اربعة . وحصل نقاش بحضور البنات . وتم التوصل الى ان الدين يسمح لك بأربعة أخوات بشرط عدم الجمع . بمعنى انك ستتزوج اخواتي على دفعات . وافق البنات واصبحت كل واحدة تحلم ان تكون هي الاولى . ولكي لا يحصل ظلم فقد حلت المشكلة بأجراء قرعة بينهن لترتيب الأولوية . كانت أمي متحمسة جدا . طلبت مني على الفور ان ارسل لك صور أخواتي . قالت أن هذا أمتحان حقيقي للصداقة بيننا , (( فاذا كنت تتحرج ان تطلب منه مال , فأطلب منه ان يكون صهر لنا )) . واستعانت بواحدة من ستة اقوال مأثورة هي كل ما تحفظه في هذه الدنيا ( الصديق وقت الضيق ) . تركت أهلي يفصلون ويلبسون فيك كيفما شاؤا . خجلت ان أفاتحهم بالحقيقة . أخذت والدي بعيدا . كان لابد ان اعلن له انك متزوج وعندك أربعة أطفال , وما عدا الزوجة الثابتة فانك تتزوج كل اسبوع تقريبا , وسمحت لأبي ان يرى بعضا من صورك مع معشوقاتك في بقاع الارض . فاستولى عليه الغم وعاد الى لف تبغه العتيق .
…..
…..
هنالك صور تحدث صدمة حين نكتشف انها تخص أناس نعرفهم وليست مقتطعة من مجلة . فقد استيقظت في منتصف الليل فوجدت والدي يقلب صورك بعيدا عن سرير أمي . لم يكن والدي شخصا متهتكا . نصحني بالكف عن مراسلتك بعد ان شك انك بلا أخلاق وانك بخيل وعديم الضمير . لا حظت عليه غضبا ونقمة . حين حدق الي احتضنني ودفن رأسه في وجهي وراح يبكي . لا أزعم ان والدي شعر بالظلم وبكبر المسافة التي باتت تفصلني عنك . ولم أعلق على التمتمات وانصاف الجمل التي كانت تخرج من بين اسنانه .
الصور التي ارسلتها وانت تضاجع البولونيات هيجتني كثيرا . لأول مرة أتعرف على سرير وارشو الثلاثي . كم أنت بارع في هذا النوع من الأسرة . ولفت نظري يا صديقي تبخر آخر قطرة من الحياء فيك . اعتقد انك عبرت بشكل سافر عن التبدل الذي يتعرض له المرء بعد فترة طويلة في المهجر . ينبغي ان تعرف اني لست محروما من المال فقط , هناك حرمان اكبر وأقسى منه هو جسد المرأة .
صورك مع المغربيات وضعتني في مواجهة مباشرة مع الفلفل . اشعر أنه جنس حاد فيه قدر كبير من التوابل تجعلني أهرش خصيتي حتى تدمى . والبلغاريات يا عزيزي , آآآآآآآه . لم اكن على علم بالافخاذ البلغارية الاسطورية , لم يكن يصلنا من هذا البلد سوى معجون الطماطة حيث ينقله سائقو شاحنات بدناء ونصف عراة ليعودوا الى بلادهم ببراميل النفط الخام .
ثم انهالت علي صورك مع السمراوات والشقراوات والغجريات والأرداف اللاتينية المدهونة بزيت الأرغان , ونساء الكرنفال في ريودي جانيرو , ومهرجان االنكاح في الهواء الطلق في البيرو , وتلك الاجساد العارية التي تتوسل بك ان تغطيها بلحمك وترضع من ثقوبها الخمس , و حفلات التنكر ولبس القرون والأقنعة وريش النسور التي تنتهي بالنكاح الجماعي حيث تطفأ الانوار ويبدأ فصل النمور الهائجة وعض الغزلان من رقابها . لاشك انك وضعت في بالك ان تناكح القارات الخمس . هذه العولمة الجنسية هي جزء من التيار الجارف الذي دفعك الى الهجرة . أما هنا فلا زلنا يا عزيزي نرزح تحت وطأة جنس محلي لم يتخطى حاجز الرقم اثنين ( زوج وزوجة ) . وحتى هذا الجنس العتيق جدا لم أصل أليه أنا شخصيا و لم أتذوق طعمه بعد رغم عبوري سن الاربعين . أما الغالبية هنا فلا زالت تمارس جنسا أحاديا ( خنثيا ) . او ما يمكن أن نسميه النكاح الذاتي . حيث ينكح كل واحد نفسه بنفسه .
كنت املك فكرة بسيطة جدا عن الجنس وأوضاعه . كان من الممكن ان ابقى هكذا , لكن صورك اظهرت لي اكثر من اربعين وضعية للجماع , ولولا الحياء لكنت وزعتها على البيوت او طبعتها ووضعتها في رصيف الشارع . المتزوجون هنا لا يعرفون سوى وضعيتين للمعاشرة هما : ( شلخ الباذنجان ) و ( تقعيد المنارة ) . الاولى لأنجاب الذكور والثانية للأناث .
هنالك صور من نار يا عزيزي , , بكيت طويلا وانا أتأمل فيها فقد كانت اعضاؤك تلتهم اللذائذ كلها في وقت واحد . في واحدة منها كانت أعضاؤك جميعا تناكح . شفتاك تمتصم شفاه ويدك اليمنى في فرج والأخرى في دبر , وثعبانك يغوص في مغارة مظلمة , واصبع قدمك اليمني مغمس في مهبل من العسل , والاصبع اليسرى في شق فاسق ينضح لهبا بنفسجيا . وكانت الاثداء عناقيد مدلاة من حولك وقريبة من فمك تقضمها متى تشاء . شاهد صورك رواد مقهى المفلسين فلطموا على خدودهم ورجوني ان تبيت معهم ليلة واحدة .
….
….
قبل مدة ليست بعيدة ظهرت علي أعراض مرض غريب كاد يسبب لي العمى . فقد بدأت عيناي تصبان سائلا أبيضا مستحلبا. فحصني الطبيب في المستشفى الحكومي , ((افتح عينيك )) قال لي . مرر طرف اصبعه على جفني ثم وضعه على لسانه . ((أغلق عينك)) . ثم تركني وأخذ والدي على أنفراد ليخبره ان السائل الابيض الذي ينهمل من عيني هو سائل منوي تسبح فيه حيامن حية .
قال الطبيب لأبي :
((ابنك يقذف من عينيه , لابد ان انه يحدق كثيرا في النساء دون ان يتذوقهن . هذا المرض بات معروفا هنا . واذا أستمرت حالته فسوف يصاب بالعمى . ينبغي ان تزوجه فورا . ينبغي ان يقذف من المكان الطبيعي ))
سأله ابي ان كان لدى وزارة الصحة دواء عاجل أو مسكنات . أجاب الطبيب بحزم ان الدواء الوحيد هو جسد المرأة .
شرح له أبي الصعوبات التي نكابدها , وتكلم بحياء عن الأفلاس الذي نعيشه , فنصحه الطبيب ان ياخذني الى أقرب مبغى . لكننا لم نكن نملك المال اللازم للجماع , خصوصا بعد الهروب الجماعي لعاهرات البلاد ( عقب صعود الأسلاميين) واحتلال الشارع من قبل ذئاب النهي عن المنكر . طلب مني والدي أن ( أغض بصري ) حتى يعثر لي على عاهرة تعمل لوجه الله تعالى . طلب أن اصبر وأغلق عيني عند مرور النساء كي لا تتفاقم حالتي وأصاب بالعمى . كنت حتى هذه اللحظة اجهل العادة السرية واشعر بالخزي من ممارستها . نصحني احد المعممين بقراءة المعوذات . نصحني آخر أن اردد ( اللهم اجعلها بقرة في عيني ) كلما أبصرت أمرأة حسناء . حاولت العمل بهذه النصائح لكنها لم تنفع . كان جوعي اكبر من أية صورة بلاغية . بل أنني وصلت الى الدرجة التي اصبحت عيني فيها تحول المرأة البقرة الى غزال أهيف .
…
…
وضعت عصابة سوداء على عيني وطلبت من ابن اختي ان يقودني الى المقهى . في الطريق دخل المدينة مسلحو (داعش) فتركني ابن اختي وهرب وبقيت أسير على عماي . وصلت المقهى وجلست على احد الأرائك وطلبت شاي . لم يرد علي أحد . يحيطني صمت مطبق لا أراه . قلت في نفسي لابد ان صدمة أحتلال المدينة قد أخرست الجميع . لم يمض وقت طويل حتى اقتربت مني قدمين ضننت انهما لصاحب المقهى . كنت أنتظر ان يضع قدح الشاي على الطاولة . مددت يدي فلامست شيئا غريبا . تتبعته بأصابعي فتبين أنه خنجر عربي مازال نديا . سحبت يدي على الفور و رحت أنتظر . لابد ان واحدا من (داعش) يجلس جنبي الآن وقد وضع سلاحه على الطاولة . علي أن أنتظر صاحب المقهى , ولابد أن أتماسك كي أعود الى البيت بسلام . لابد انهم في حالة توتر الآن ويشكون بالجميع . ينبغي ان اظهر اكبر قدر من التمسك بالعمى فهو الأمل الوحيد لي بالنجاة .
(( لايوجد شاي , ولم يعد المكان مقهى )) . صاح أحدهم .
هل كان يخاطبني ؟ . بقيت صامتا . فهز كتفي . عندئذ انتبهت ان الكلام موجه ألي .
(( أنت جالس في مقر الدولة الأسلامية وليس في مقهى ))
كان لابد ان أبدي أكبر قدر من القبول لهذا التحول الذي طرأ على المكان . أعذروني قلت لهم (( أنا لا أرى وما زالت ذاكرتي هي التي تقودني )).
سألوني : (( منذ متى وأنت أعمى ؟ )) .
انتبهت انهم جادين للغاية ولا يقبلوا الكلام دون تقليبه . كان لابد ان أسبقهم في قول الحقيقة قبل ان يخضعوني لأمتحان يحسم أمري . قلت لهم انني لست اعمى وحكيت لهم قصتي . قلت انني اريد ان أغض بصري عما حرم الله .
بدأوا تحقيقهم معي . لم يسألوني عن أسمي ولا وظيفتي ولا عائلتي ومسكني . لم يسألوني عن أية مفردة تتعلق بالقرن الواحد والعشرين . سحبوني الى القرن الأول الهجري وأمطروني بوابل من الأسئلة .
طلبوا مني أولا ان اقرأ ثلاثة سور من القرآن فقرأت لهم نصف القرآن , ثم سألوني عن زوجات النبي , طلبوا مني ان اذكر أسماءهن وجدول لقاء النبي بهن . فذكرتهن جميعا . سألوني ان أعدد الصحابة الذين حضروا صلح الحديبيية . كنت مصمما ان لا اترك لهم اي منفذ لذبحي . سألوني عن الحاضرين في سقيفة بني ساعدة , وعن الذين اجتمعوا في دار بن الأرقم . سألوني عن اسم الفرس التي طارت بالنبي من مكة الى المسجد الاقصى . سألوني عن أسماء قتلى بدر وحنين .
عددتهم جميعا . ثم وجهوا الي سؤالا مباغتا :
(( من هو آخر الخلفاء الراشدين ؟ )).
هنا حدست انهم نصبوا لي فخا وعلي ان لا أقع فيه . قلت لهمم دون تردد :
(( الخليفة ابو بكر البغدادي طبعا )).
عندئذ ربتوا على كتفي وطلبوا مني أن أزيح العصابة عن عيني .
قلت لهم سوف أصاب بالعمى . قالوا افتح عينيك لم يعد هناك ضرورة لغلقها , فالنساء لم يعد لهن وجود في طريقك , وحتى لو صادفتهن فلن تستدل عليهن .
حين فتحت عيني وجدت رؤوس جميع المفلسين مقطوعة ومعلقة على اعمدة المقهى . كانت وجوههم ماتزال تشبه وجوه الجراد . سألت المسلحين :
((لماذا قطعتم رؤوسهم أنهم مفلسون ؟ الا ترون وجوههم ؟))
. قالوا أنهم فشلوا في الأختبار . لم يكونوا من حفظة القرآن . ويجهلون اسماء السلف الصالح . ولم يكونوا من المصلين فقد فشلوا في تحديد القبلة والوضوء . وفتشنا جيوبهم فوجدنا صورا أباحية . ارتج قلبي على وقع العبارة الأخيرة . فقد كانت صورك يا صديقي في جيوبهم . حمدت الله أنهم لم يذكروا أسمي . لم يعترف أي واحد منهم علي .
…..
……
لكي تتعرف ياصديقي على داعش علي ان اعيد اليك صورك بعد أن ألونها بلونهم . لم يدخل هذا التنظيم عصر الألوان بعد . أنه يعيش بلون واحد فقط . ويطمح ان يستبدل ألوان العالم بلونه . عليك ان تتخيل جبال الثلج في النرويج وهي تتحول الى فحم . ولكي تعرفهم عن كثب عليك أن تركب الزحافة الجليدية التي تجرها كلاب الهسكي . سوف تنتقل بها من قريتك الى سوق المدينة . في الطريق يستوقفك ( الفايكنغ ) بقرونهم الفولاذية واجسامهم التي تشبه العفاريت شاهرين فؤوسهم بوجهك . سوف يطلبون منك ان تقرأ لهم أجزاء من خطبة ( أريك بلوداكس ) ملك النرويج في قادة السفن المتوجهة لأحتلال سكوتلاند . وبعد ان تنتهي عليك ان تذكر أسماء القادة . وحين تفشل في الأجابة يبقرون بطنك بقرونهم الفولاذية ويحطمون رأسك بفؤوسهم . تخيل أوربا وهي تمتلئ بهذا النوع من قطاع الطرق . انهم لا يريدون ان يجردوك من ممتلكاتك ولكن يختبرون عقائدهم فيك , احدهم يسألك عن مزامير داود وآخر يسألك عن الاصحاح الرابع في سفر الملوك . والنازيون الجدد يطلبون منك ان تقرأ خطبة الفوهرر في غدانسك . وهلم جرا .
لكي ترى داعش تخيل معدة مليئة بالقمل . أو جسد يتعرق سحالي . داعش هي كم من الكوابيس المتحققة . هي احتقان مثانة مليئة بالبول , وحصاة في أحليل شرب صاحبه دفعة واحدة عشرة زجاجات بيرة ويريد أن يتبول لكن الحصاة لا تقبل . مازلت احتفظ بشعور قوي انهم مخلوقات سقطوا من كتاب عتيق وسيعودون أليه .
لكني بعد تلك الأغفاءة الخاطفة صحوت على وجودهم وهم يحيطون بي . ما زالت المدينة تحت قبضتهم .
قالوا انهم مستعدون لتزويجي حالا . فتحوا أمامي خارطة للبلاد . أشار أحدهم بالقلم على موضع في العاصمة . قالوا ان هناك عرس سوف تحضره بلا دعوة . هناك اثنان من الكافرين سوف يتزوجان وأنت ستمنع ذلك . واجبك أن توقف ذريتهم . لأن زواجهم يعني المزيد من الكافرين على الأرض . كانت الجمل ملتبسة ومتداخلة وفيها قدر كبير من الشعر . هناك تورية تمنع الفهم . فطلبت منهم مزيدا من الأيضاح . سألتهم :
(( لكي أتزوج علي ان اقتل من يريد ان يتزوج .. هل هذا ما تقصدونه ؟ ))
شرحوا لي العملية من جديد . لكي تتزوج عليك ان تهلك الكافرين أولا . سوف تأخذهم معك وترميتهم في جهنم .
كنت حتى هذه اللحظة أحسب انها بلاغة رفيعة المستوى وتحتمل التأويل .
((كيف آخذهم معي وأرميهم في جهنم ؟ ))
عندئذ اخرجوا لي حزاما فيه أربعة جيوب عبؤوها بأصابع الديناميت . احاطوا به صدري وشدوا الحزام بقوة . ودلوني على الزر الذي ينبغي ان اضغط عليه عند اقترابي من مركز العرس .
سألتهم : (( ومتى أتزوج ؟ ))
سوف تتزوج بعد ان تمنع هذا العرس . سوف تهلكهم جميعا بضغطة من هذا الزر . سوف تتزوج بعد ان ترميهم في جهنم وتواصل طريقك الى الجنة . سوف تجد هناك من ينتظرك . ليس عروسا واحدة بل عرائس بقدر عدد من تهلكهم من الكافرين .
عرفت عندئذ أنهم يقصدون القتل . ان انتحر أولا ثم أتزوج .
لم يكن هذا العرض مغريا لي , هناك عقبة معرفية يمكن رؤيتها مباشرة . هناك لقاء بين الوجود والعدم في حادثة واحدة , ما عدا تلك العقبة هناك تلك الرفوف من الكتب الألحادية لتي قرأناها سوية يا صديقي . نيتشة وسارتر وماركس و فيورباخ وهيغل وانجلز و بوليتزر . لقد دمرت هذه الكتب فسحة الغيب في داخلي . لم تبق اي أثر للحياة بعد الموت . بل أنها دمرت فكرة الله والفردوس و اليوم الآخر والثواب والعقاب .
حين أكتملت مراسيم تثبيت الحزام الناسف ألقوا علي آخر الوصايا :
(( لا تنس يا يونس . قبل ان تضغط الزر . أحرص ان تأخذ معك اكبر عدد من الكافرين . اذا ذهبت لوحدك الى الجنة فسوف لن تجد من ينتظرك . نعم ستكون خالدا هناك , تشرب اللبن والعسل وتضطجع على سرر مرفوعة وزرابي مبثوثة , ولكن بدون حوريات )) .
قلت لهم أعطوني فرصة لأودع أهلي . وما أن أبتعدت عنهم ووصلت أهلي حتى ابلغتهم بالتعجيل في الهرب .
…
…
صديقي العزيز :
لقد نجونا بأعجوبة . اكتب اليك الآن من بناية مدرسة ( أبن سينا ) الأبتدائية المختلطة . والحقيقة ان المدرسة كانت قبل اشهر مدرسة للبنين فقط , لكنها تضم الآن جميع الشرائح الأجتماعية وبمختلف المستويات العلمية أضافة الى الطلبة الأصليين طبعا . يطلقون عليها الآن مدرسة ( النازحين ) . انا وأهلي نسكن في الصف الاول الأبتدائي شعبة ( باء ) . بعد أشهر من وجودنا هنا تم محو امية والدتي . تستطيع الآن أن تقرأ جملا كاملة . أما أختي الصغرى فقد لفتت نظر معلم الجغرافيا (نازح أيضا ) وسيكون الزفاف في العطلة الربيعية في الصف الخامس شعبة ( جيم ) . الشئ المزعج هنا هو الاستيقاظ المبكر ولملمة فراش النوم واعادة ترتيب المقاعد لتكون قاعة للدرس . وبسبب البرد علينا الجلوس القسري لست ساعات يوميا والأستماع لدروس الألفباء . اما أصعب شئ على امي وأخواتي فهو الصمت وتعذر ( القيل والقال ) . ينبغي ان تتوقف العائلة عن الكلام من الثامنة صباحا وحتى الثانية ظهرا لكي تتيح فرصة للتلاميذ بمتابعة الدرس . اما الطهي فيتم اثناء الفرصة الكبيرة بين الحادية عشر والثانية عشر . سوف أرسل لك صور عن تفاصيل حياتنا اليومية في المدرسة , اعتقد انها ستوفر لك متعة اضافية . يمكن ان تعمل منها معرضا مثيرا في النرويج .
…….. تحياتي …
صديقك المفلس . .
يونس معيوف الموصلي