تغيّرالعالم الذي نعيش فيه كثيراً في العقود الأخيرة ، في ظروف العولمة والتطور المتسارع لثورة الأتصالات والمعلومات ، مما ساعد على تخطي الحدود الجغرافية وتقريب المسافات بين البشر والتواصل الفعال بين أنماط الحياة والثقافات المختلفة . وباتت ثقافة التسامح ضرورة وطنية وانسانية ملحة ، ومطلوبة أكثر من أي وقت مضى ، سواء داخل المجتمع المتنوع أثنياً و دينياً أوعلى صعيد العلاقات الدولية .
لقد كان الناس حتى عهد قريب يعيشون ، كما لو كانوا في عوالم مختلفة ، وقد وجدوا أنفسهم فجأةً جنبا إلى جنب ، في ظل عالم واحد تحول الى قرية كونية ، وأخذ العالم ينحو حثيثاً نحو التجانس والتناغم .
ننتمي – نحن البشر – الى أعراق وثقافات شتى، ولدينا ملامح وسمات وخصائص مختلفة . نرى أنفسنا والحياة والتأريخ على نحو مختلف .لا يشبه احدنا الآخر وننظر اليه ، كما ننظر الى الغريب .وقد لا نفهم نمط حياته وقيمه جيداً. اذن كيف يمكننا أن نعيش معا؟ حيث لم يعد ممكناً أن نستمر في العيش منعزلين كما لو كنا وحدنا .
. ليس ثمة مفر من البحث عن الفهم المتبادل ، وعن ما يوحدنا ، وعن اساليب جديدة للتعايش المشترك ، لأن الزمن لا يعود الى الوراء . والبحث عن اجابة مقنعة وشافية لهذا السؤال هو الذي أدي الى شيوع وتعزيز ثقافة التسامح
معنى التسامح لغةً واصطلاحاً :
تطور مفهوم التسامح على مدى قرون عديدة، وهذه العملية لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا .
والشعوب المختلفة تفهم هذا المصطلح بأشكال مختلفة وتعبرعنه في لغاتها بصيغ متنوعة ،على النحو الذي تحدده التجربة التأريخية لكل شعب وثقافته .
في اللغة الأنجليزية التسامح يعني “الأستعداد والقدرة على تقبل شخص أو شيء ما برحابة صدر.”
في اللغة الفرنسية يقصد به ” احترام حرية الشخص الآخر، وطريقته في التفكير، وسلوكه ، ومعتقداته السياسية والدينية. ”
في اللغة الصينية التسامح يعني ،” السماح أو التصريح وان يكون الانسان كريما مع الآخرين “
وفي اللغة العربية ، هو ” التَّسَاهُلُ ، والحِلْمُ ، والعَفْوُ ، والصفح ، والمغفرة .”
وفي اللغة الفارسية يقصد به ” الصبر والتسامح والقدرة على التحمل، و المصالحة.”
ثمة تعاريف كثيرة لمصطلح التسامح ، وبطبيعة الحال فأن مفهوم التسامح اكثر ثراءا من اي تعريف .ولعل اكثر التعاريف شمولا هو ما جاء في ” اعلان مباديء التسامح ” الصادر عن منظمة اليونسكو في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1995 والموقع من قبل 185 دولة : ” التسامح ، هو الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا، ولأشكال تعبيرنا الذاتي وطرق تجلي التفرد الأنساني ، ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية التعبير والضمير والمعتقد .
التسامح – هو الحرية والتناغم في التنوع. وهو ليس واجبا اخلاقيا فحسب ولكنه حاجة سياسية وقانونية .
التسامح فضيلة تيسر تحقيق السلام ويسهم في احلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب.”
التسامح – منظومة ثقافية متعددة الأوجه والمعاني ، ويتضمن جوانب دينية وسياسية واجتماعية وثقافية وتربوية ، وتعد من أهم الضرورات الأنسانية والأخلاقية في عالم اليوم . التسامح ليس مجردالصفح عن أخطاء الآخر، بل التعايش معه ، واحترام عقيدته ومواقفه وأفكاره، والذي يسمح بتعددية الرؤى والأتجاهات المختلفة ، استناداً الى مبدأ المساواة ، الذي يمنح الناس جميعاً حق اتخاذ مواقف متباينة من القضايا التي تحتمل الخلاف ، وعلينا ادراك نسبية حقائقنا الصغيرة ، ففي نهاية المطاف ، وراء جميع التصورات المختلفة عن العالم ، مهما بدت لنا صحيحة أو خاطئة ، يقف البحث الأزلي ذاته عن معنى الحياة، وعن الله والمصير ، وهذا ما يوحد البشر جميعا.ً
.
في الواقع ان كل اعتقاد ، سواء كان دينيا أو سياسياً أو ثقافيا يمكن أن يؤدي الى التعصب ، اذا كنا نعتقد ان آرائنا التي نؤمن بها ، صحيحة دائما ، وأن آراء الآخرين خاطئة.
التسامح تجاه الناس الذين يختلفون عنا بمعتقداتهم وعاداتهم، يتطلب ادراك ان الحقيقة لا يمكن أن تكون بسيطة، بل ان لها العديد من الوجوه، وأن هناك وجهات نظر أخرى يمكنها تسليط الضوء على هذا الجانب أو ذاك من جوانب الحقيقة
لمحة تأريخية :
كان التعصب بين الجماعات البشرية المنتمية الى اصول واديان ومذاهب مختلفة وراء اندلاع الكثير من الحروب والنزاعات الدينية عبرالتأريخ البشري . وشهدت اوروبا في القرن السادس عشر ، موجة مرعبة من التناحر والتقاتل الطائفي بين الكاثوليك والبروتستانت وخاصة في فرنسا وايطاليا واسبانيا.
جاء مفهوم التسامح تحت تأثير حركة الأصلاح الديني ، ليؤكد الحاجة الى علاقات اجتماعية جديدة بين الطوائف المسيحية المختلفة ، تستند الى الأعتراف المتبادل بحق الأختلاف في المعتقد . ،
وقدمت بولندة نموذجًا فريدًا للتسامح وتعدد الأديان وعدم التمييز العرقي، فقد أكدت رسميًا على مكانتها “كمأوى لمن تعرض الى الأضطهاد الديني والطائفي ، حين أصدرت أول قانون للتسامح الديني في أوروبا عام 1573 .
وفي فرنسا اصدر الملك هنري الرابع ما يعرف بمرسوم نانت في 13 ابريل عام 1598 . وكان ذلك أول اعتراف رسمي فرنسي بالتسامح الديني ، التي منحت للبروتستانت الفرنسيين الذين ، يُطلق عليهم اسم الهوغونوت ، حرية المعتقد والعبادة والمساواة الاجتماعية والسياسية مع الأغلبية الرومانية الكاثوليكية.
وكان قانون التسامح البريطاني لعام 1689 الحصاد السياسي للجهود المبذولة من قبل واضعي النظريات حول فكرة التسامح في القرن السابع عشر، كما كان هذا القانون أيضًا ضرورة سياسية أفسحت المجال لتطور مفهوم التسامح الذي ساهم بدوره في تحقيق مزيد من الاستقرار السياسي في الجزر البريطانية، هذا على الرغم من النطاق المحدود الذي كفله هذا القانون للتسامح
جاء ظهور مفهوم التسامح والأعتراف به وسن القوانين لأقراره وترسيخه ، كمظهرمن مظاهرالحل الوسط للصراع الديني الكاثوليكي -البروتستانتي الدامي ، وبعد أن ادرك الأوروبيون ان فرض مذهب ديني واحد بالقوة سواء داخل البلد الواحد أوعلى الدول الأخرى ، لن يسفر سوى عن التدمير والخراب وتأجيج العداوة والكراهية داخل المجتمع المتنوع دينياً ومذهبياً ونشوب حروب دموية بين الدول المتصارعة .
لقد ظهر التسامح في أوروبا ومن ثم في امريكا ، ليس فقط كمبدأ نظري بل كحل عملي للخروج من دوامة الحروب الأهلية والنزاعات الدينية الدامية ، عندما كلن التشتت يهدد وحدة المجتمع المتنوع دينيا . واتضح للجميع ، أن السلم الأهلي في المجتمع سيكون اكثر رسوخا ، حين يتم التخلي عن محاولات فرض الوحدة الدينية بالقوة .
وقد قام جون لوك ( 1632 – 1704 بدور بارز في الدفاع عن التسامح الديني ووضع اللبنات الأولى لنظرية التسامح .
في مقاله “رسالة في التسامح” 1667 وكتابه “رسالتان في الحكم”1689، أكد أن الإيمان لا يفرض بالقوة ؛ وأن التسامح هو وحده الذى يكفل تحقيق السلام بين البشر. ونادى بضرورة الفصل بين الكنيسة والدولة أو بين السلطة الدينية والسلطة المدنية ، ” فلكل سلطة اختصاصاً معيناً لا دخل للأخرى به ، فهدف الكنيسة هو الحياة السماوية الأخروية وهدف الدولة هو الحياة الأرضية الدنيوية، أى تنظيم شئون الناس فى الحرية والملكية والحياة ( فى الصحة والأرض والمال والمسكن ووسائل الترفيه وما شابه ذلك ) . ولذلك فليس للدولة أن ترعى العقيدة الدينية فى التشريع ، ويجب أن تظل قوانين الدولة فى استقلال كامل عن الإيمان الدينى ، فلا محل للقول بدولة مسيحية . “
مبدأ الفصل بين السلطتين الدينية والمدنية ، شكل لاحقاً حجر الأساس لليبرالية الحديثة .
وكان لوك يقصد بالتسامح الدينى : أنه ليس من حق أحد أن يقتحم باسم الدين الحقوق المدنية والأمور الدنيوية “. ولهذا فإن ” فن الحكم ينبغى ألا يحمل فى طياته أية معرفة عن الدين الحق ” . ومعنى ذلك أن التسامح الدينى يستلزم ألا يكون للدولة دين لأن ” خلاص النفوس من شأن الله وحده .ثم إن الله لم يفوض أحداً فى أن يفرض على أى إنسان ديناً معيناً . ثم إن قوة الدين الحق كامنة فى اقناع العقل ، أى كامنة فى باطن الإنسان .”.
هذا وقد شارك فلاسفة وكتاب عصر التنوير، وعلى رأسهم فولتير ( 1694 – 1778 ) في تأصيل وتطوير نظرية التسامح . ويقول : ان المبدأ الأول الطبيعة هو التنوع وهذا يؤسس للتنوع في مجال الحياة الإنسانية، وقبول هذا التنوع حق أساسي للوجود . واقترب فولتير كثيراً من المفهوم المعاصر للتسامح حين قال : ” أ نا لا أوافقك الرأي ولكني مستعد أن أموت دفاعاً عن حقك في التعبير عن رأيك الخاص،” – وهذا القول المأثور يعبر أصدق تعبيرعن النظرية الكلاسيكية للتسامح ، التي تطورت في القرن التاسع عشر لتشمل ، ليس التسامح الديني فقط ، بل حرية الفكر والرأي والتعبير .
ونرى على هذا النحو ، أن مشكلة التسامح ظهرت لاول مرة في الحضارة الغربية على المستوى الديني، الذي وضع الأساس لجميع الحريات الأخرى التي تم تحقيقها في المجتمعات الغربية لاحقاً .
التسامح ضمان للسلم الأهلي والتعايش المشترك :
التسامح انجاز صعب ونادر لسبب بسيط وهو ان اساس المجتمع هو الوعي الجمعي بالأنتماء الى مجتمع واحد مع أولئك الذين يشاركوننا معتقداتنا، أو أولئك الذين يتكلمون نفس اللغة التي نتكلم بها أو لهم نفس الثقافة التي لنا أو أولئك الذين ينتمون إلى نفس المجموعة العرقية .
أما الأختلاف ، فأنه يمكن ان يكون في أي مستوى من مستويات الواقع البيولوجي والثقافي أو السياسي .
كل الأمم الحديثة أكثر تعددية دينيا ، وسياسيا من المجتمعات التقليدية ، التي حافظت على وحدتها بفضل التقاليد الأساسية في الثقافة أو الدين .
التعددية الثقافية والدينية التي تطورت في العالم الغربي ، بعثت الى الحياة التسامح الضروري لإنشاء المجتمع في ظروف التعددية . . كان التسامح، من جهة، ناتجا عن هذه التعددية، ومن ناحية أخرى ، شرطا لتطوره اللاحق ..
التسامح ضمان للسلم الأهلي والعيش المشترك المتناغم بين المكونات او الطوائف التي تختلف عن بعضها البعض في العديد من المعالم والمظاهر ، ويعد ا بمثابة الحصانة وضمان اللاعنف تجاه مختلف الأقليات واضفاء الشرعية على أوضاعها ، في ظل سيادة القانون . وفي الوقت نفسه فأن التسامح يحد من مظاهر الكراهية وردود الفعل السلبية او استبدالها بالأيجابية ويوجه العلاقات بين افراد المجتمع نحو المساواة والاحترام والحرية، ويعد اساسا لتطبيع الجو النفسي في المجتمع وتعزيز التواصل بين أفراده .
التسامح – سمة اخلاقية خاصة تعكس الموقف الاجتماعي الفعال والاستعداد النفسي للتفاعل الإيجابي مع أشخاص آخرين أو مجموعات من بيئات عرقية ودينية واجتماعية أخرى ووجهات النظر الأخرى والفلسفات، وأساليب التفكير والسلوك ..
التسامح يختلف تمام الأختلاف عن عدم الأكتراث أو اللامبالاة أو التنازل لشخص ، ذلك لأن التسامح لا يعني أن نتفق ً في الرأي حتماً مع الجميع وفي كل شيء وهذا على وجه التحديد هو احد ابرز مزايا التسامح : كل شخص له الحق في التعبير عن رأيه الخاص ولكن ليس من الضروري ان نتفق مع وجهة نظره ، بل يكفي اظهار الأحترام له ولرأيه ، وهذا هو الأسلوب الوحيد للتوصل الى توافق في الآراء والخروج من أي حالة .
قد لا نتقبل أفكار شخص ما أو لاتعجبنا طباعه أو لا نستسيغ أفعاله ولكن الأنسان لا يمكن أن يكون غريبا عنا . وعلينا أن ندرك هذا ونبحث عن قواسم مشتركة تجمعنا او توحدنا دون أن نغير جلدنا أو نخسر خصائصنا وهذا هو المعنى الحقيقي للتسامح .
لهذا السبب نحن بأمس الحاجة إلى التسامح لضمان مستقبل سعيد وآمن لأطفالنا ليعيشوا في عالم لا يوجد فيه مكان للحروب والصراعات، حيث يستند حل كل القضايا على الاحترام والتراضي.
حدود التسامح :
يرى كثير من الفلاسفة أن التعامل مع الغير لا ينبغي أن يدفع المجتمعات إلى هجر أوعدم حيازة وسائل الردع، لكل ما يهدد الدولة .
وضع ” جون لوك ” عدة ضوابط واضحة للتسامح لا ينبغي تجاوزها بأي حال من الأحوال ، لأن من شأن ذلك ان يهدد السلم المجتمعي وأمن الدولة ، وفي مقدمة هذه الضوابط ، عدم الترويج لمعتقدات وأفكار متطرفة تهدد أمن المجتمع أو أية أفعال تهدف الى تدمير الدولة أو التعدي على حقوق وأموال الآخرين . والدولة بحسب لوك ملزمة بأن تضمن على أرضها حرية التعبير عن المعتقدات الدينية والسياسية والفلسفية ، بشرط أن الا تؤدي هذه المعتقدات الى اشاعة الأضطراب أو الفوضى في الساحة العامة للمجتمع .
اما فولتير فقد جعل للتسامح حدودا لا يتعداها عندما يتعلق الأمر بشؤون الدولة السياسية .
ورغم أن سبينوزا قد دعا إلى الدفاع عن الحق لكل فرد في التفكير فيما يشاء وقول ما يفكر فيه، إلا أنه دعا في نفس الوقت إلى محاربة كل الأفكار الخاطئة وغير العقلانية التي لا يمكن البرهنة عليها، أو لا يمكن أن تكون موضوعا للتواصل ، عكس الأفكار العقلانية التي لا تحتاج إلى أي سلطة خارجية ما عدا سلطتها الداخلية، بما تتضمنه من معقولية. يرى سبينوزا أن التسامح هو اعتراف بحرية الآخر. يقول : لا يتمثل التسامح في اعتبار أن أي رأي صحيح، ولكن الاعتراف بالحرية الكاملة للغير في التفكير بذاته والتعبير عن آراءه.
التسامح لا يعني ان يتخلى المرء عن مبادئه وآرائه ، أو يمتنع عن اظهارها والدفاع عنها ، وانما يعني ايجاد ارضية مشتركة للتعايش والأحترام المتبادل مع الآخر الذي نختلف معه في آرائه ومعتقداته ، ولكن هذا لا يعني أن نتسامح في كل شيء لأن التسامح اللامحدود يدمر التسامح .
التسامح بأطلاق ، يعني قبول الخطأ والآراء أو الأفعال المضادة للتسامح ، التي تهدف الى تقويض حقوق الآخرين أو إلغاء حرية التعبير .فعدم التسامح مع الأفكار غير المتسامحة يحمي التسامح نفسه من الأنحراف .
أن المرء كي يكون متسامحا يجب أن يرسم حدودا لما لا يمكن التسامح معه. لا يمكننا مثلا وانطلاقا من المبادئ الديمقراطية نفسها أن نقبل الأفكارغير الديمقراطية سواء لليمين المتطرف في الغرب اوللأرهابيين والمتعصبيين في العالم الأسلامي بشتى فصائلهم ومذاهبهم .