تولد اليوتبيا من امكنة الأطياف أولاً ، وهي مدينة لبست ثوب افلاطون واختارت هاجس الفضيلة طريقا لها ، وطوال أعوام قراءاتي وكتاباتي كان طيف ما اتخيله هناك في مدن اليوتيبيا ،هي صورة المقارن الذي سكن اطياف صباي وبعد أن تسرحت من العسكرية لأكتشف أن دلمون الجنة السومرية هي من بعض يوتيبيا ثقافتنا وموروثنا وما تحمله حكايات جديدتي ونحن نصغي اليها متجمعين على موفد ( المطال ) في الليل الشتائي البارد . وتكريما لذكرى جدتي وحنان مدينتها الفاضلة اهديت رؤى كتاب شعري كتبته عن خيالات دلمون فينا وكان بعنوان ( دلمون جنة الفقراء ) .
هذه اليوتيبيا التي اخترعها العقل الجنوبي في بلاد ميزوبوتاميا بقيت كل أزمنة ولعي بالأطياف البعيدة القادمة من اور ولكش والعبيد واريدو واكد وتلو وكل امكنة الاثر الساحر قرب مدينتنا تلاحق متون النصوص والقصائد التي اكتبها بفضل حماس البدايات الفطرية وحتى تسميتي كاتباً محترفا من قبل محرري الصفحات الثقافية.
أتخيل المكان الآن ، لا أفلاطون أسس فيه مدرسة ، ولا كونفوشيوس كتب فيه حكمة ، ولم يزره الحلاج ليتأمل صوفية زرقة السماء المنحدرة من أجفان الجواميس الى نهايات غابات القصبة التي ترسم مع مشي الشخاتير موجا أخضر يذكرنا دوما بقصيدة لوركا :أحبك هكذا خضراء.
بل المكان هو من بقايا أول يوتيبيا تخيلها البشر ، حيث تنام الآلة على أجفان العذارى في غفوتهن قرب ضفاف الانهر وسواقي الاهوار وحيث يؤسس الملوك لهم شرائع ورغبات وخزائن يدفع فيه الفقراء ثمن طاعتهم لذلك الرجل الذي ارادوه حكيما وليس حاكما.
ولهذا اختفت صورة اليوتبيا من ارض الواقع لتعيش في الاساطير والرغبات التي تملئ اجفان أولئك المساكين وهم يوهمون انفسهم أن خطأهم في تأسيس الملوكية وطاعتها لابد ان نتعامل معه بالصبر والاحلام والصمت والتطوع جنودا في ساحات حرب توسع السلالات وأن الاخرة التي سيجدونها في دلمون ستضمن لهم خلودا وازلا غلا يصبحون كما على الارض عبيدا واجراء بل امراء المكان الخالد.
افتقدت مدن سومر صورة اليوتيبيا الواقعية ، لكن قرى الأهوار بقيت تحتفظ بالكثير من خصائصها التي كتبها مدونون مجهولين وراح الناس يتناقلها شفاهيا ، ذلك المكان الذي ينبت فيه القصب وتقفز فيه الاسماك بمرح الاطفال على الاراجيح ـ وتأتي اليه الطيور من مدن شنغهاي وستوكهولم واوتاوا وصحراء سيبيريا ليعشوا فتنة ودفء شتاء هذه اليوتيبيا التي تحتضن براءة البشر وحدود تفكيرهم المقترن بطبائع الشرف واكرام الضيف والحذر من الغرباء اصحاب النظرات الجشعة ،حيث ذكر احد قادة الاسكندر في بابل أنه لا يستطيع ان يخوض غمار هذا المجهول ويذهب الى تلك المناطق التي قصبها يفترس الغرباء قبل بشرها .
هذا المكان الذي تحرك فيه الشخاتير اتجاهات الماء وسير اسراب الطيور والسمك ، وتصدح منه موسيقى الحنان الغريب القادم من حناجر الصيادين ، سيظل وعلى الدوام جزء من اليوتيبيا التي يفتقدها هذا العالم بسبب الحروب وخيبات الامل التي واجهت مركبات الفضاء وهن يكتشفن ان القمر وبقية كواكب المجموعة الشمسية ليست كما في وصف عمر ابن ربيعة :
قالت الكبرى : أتعرفن الفتى ؟ قالت الوسطى : نعمْ، هذا عمر
قالت الصغرى ، وقد تيمتها: قد عرفناهُ، وهل يخفى القمر!