لا أشك أن البلاء الذي أنزله تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بقسم كبير من حضارة وادي الرافدين في نينوى قد زاد من هموم وزارتكم بهذه الفاجعة، التي أظن انكم وموظفي الوزارة تعرفون نتائجها جيداً. أخاطبكم من بلاد الغربة ، يا سيادة الوزير، التي ليست هي بلد حضارة قديمة، كما هو العراق، بل هو بلد حضارة جديدة، لم يعرفها العراق.
عرفتُ من خلال زياراتي للمكتبات الرئيسية في لاهاي، ولايدن، وامستردام، في السنة الأولى من إقامتي في المملكة الهولندية أن الوثائق والمعلومات والكتب ، التي تُعين كل دارسٍ لحضارة العراق القديمة متوفرة ومصانة بدقة ، إذ يمكن لأي دارسٍ أن يطلع على خير تلك الحضارة وما قدمته للإنسانية جمعاء. بمعنى من المعاني أريد تذكيركم ، يا سيادة الوزير ، أن الهولنديين حالهم مثل حال الاوربيين الاخرين يعرفون كل شيء عن العراق القديم والحديث، لأنهم يعتبرون الوثائق والتوثيق خطواتهم الاولى للدخول الى التاريخ .
لا شك أنكم، الآن، وجميع موظفي وزارتكم، تواجهون وضعاً عسيراً جداً يُدمع العيون ويفتت الأكباد لأن الوحوش من افراد وقادة الدواعش قد هدّمت وحطـّمت وجرّفت بقايا الحضارة الآشورية في (نمرود) و(الحضر) كما عاثوا فساداً ونهباً وحرقاً في متحف الموصل.
ليس المهم ، انشغالكم بالبحث عن (وصف) هذا الفعل الشنيع ،الذي قام به القادمون من عصر الظلمات هل هو : جريمة كبرى ،أم صغرى أو أنها (جريمة حرب) لأن المجرمين أنفسهم لا يملكون أي إحساس بما فعلوا في العدوان على الصخور التاريخية – الحضارية، التي تحمل (الحكمة) الإنسانية الاولى ، فضيلة الآشوريين القدماء. لم تكن الشواهد المحطمة مجرد حجارة ، بل هي رمز من رموز الإنسانية في بلاد الرافدين، ناتجة عن تجميع الآلام مع الآلام، والأفكار فوق الافكار، والحكمة فوق الحكمة، التي كانت تعبيراً عن صور حضارة بنتها أيادي ابناء الرافدين .
في سبعينات القرن الماضي شاهدتُ في إحدى القاعات الرئيسية بالمتحف البريطاني، كما يشاهد السائحون العراقيون والزوار من كل جنسيات العالم، تمثالين عظيمين محفوظين بعناية فنية لا مثيل لها. كُتب تحتهما ما يلي: (أسد مجنح ذو رأس آدمي من بوابة في قصر آشور بانيبال ملك اشور 885 – 860 قبل الميلاد من منطقة نمرود..).
خلف هذه القاعة يجد السائح رواقاً طويلاً زُينتْ جدرانه بألواح منحوتة نحتا ناتئاً كأنهما كتاب تاريخي منحوت على الحجر وفيه ( يقف ملك اشوري يحيط به جنده واتباعه وهو يشرف على بناء قصر ) .. هذا المنظر المزيّن يصوّر ملكا يستعرض جيوشه ثم وهو يتسلم ما يقدم له من جزية تتضمن كنوزاً وإبلاً وماشية .
بينما شاهدتُ ، يوم أمس، الآشوريات تتحطم بمطارق تنظيم الدولة الاسلامية، الدواعش . لم يكن هذا مجرد تحطيم تماثيل حجرية ، بل هو تحطيم لجزء كبير من تاريخ الإنسانية كلها ، ففي هذا التاريخ علاقة اسطورية حول (الطوفان الكبير) المسمى (طوفان نوح) ورد ذكرها في الكتب الدينية. كما أن الآشوريات تتضمن مصادر العلاقة الانسانية المتطورة بين العصر السومري، والبابلي ، والآشوري، وكل ما ظهر من مدن حضارية في وادي نهري دجلة والفرات.
أيها السيد الوزير.. : لا يجدي نفعاً أن تهب نار التصريحات الحامية على الشاشات التلفزيونية والاكتفاء بها. المطلوب مغادرة الاساليب العتيقة والاتجاه نحو ريادة اليونسكو والأمم المتحدة وكل المؤسسات الحضارية العالمية، لتكريس الخبراء والباحثين واستغلال كفاءاتهم خير استغلال، ليكون همهم الوحيد، المحافظة على أصول وبقايا التاريخ الحضاري، الاشوري والبابلي والسومري، بوسائل حماية حديثة، ليكون المتحف العراقي في المستقبل مرآة حقيقية للزمان العراقي كله، وضمان ديمومة الحياة للحضارة العراقية القديمة ،التي تبعثرت آلاف من اجزائها في مختلف انحاء العالم ،بفعل دخول اللصوصية إلى صلب الحركة الآثارية ، بغفلة الحكام والمسئولين ممن لا يفهمون عملية استدلال التاريخ من خلال العقل الآثاري والحضاري.
المطلوب من وزارتكم ، أيها السيد الوزير، التحرك باليد والقلم والعلم ووسائل الاتصال كافة، من أجل تحشيد العلم الآثاري كله، في العالم كله، ليكون في حركة حقيقية لتجميع ذرات الحضارة العراقية وحفظها في آلية منصفة، مثلما اسبغ متحف برلين جلّ حِراكه وعلومه للحفاظ على (باب عشتار) وكينونات بابلية اخرى، تماماً مثلما قام علماء الآثار الانكليز للحفاظ على (الآشوريات) في المتحف البريطاني ومثلما عبَرت (مسلـّة حمورابي) موجات البحر الطويلة لتستقر آمنة في متحف اللوفر .
يا للغرابة آثارنا تضيع من بين أيدينا ، بينما الأجانب الأوربيون يحافظون عليها. اتمنى لكم يا سيادة الوزير أن تشكروا كل القيم ،التي تعتز بدروب الخير وتطلبوا حماية آثارنا التي نعجز نحن عن حمايتها.