-1-
حين يُحبّ الانسان شخصاً معيّناً ويتجذر الحبُ في أعماقه ، لا تلوح أمام عينيه إلاّ الصُور الجميلة لذلك المحبوب …
أمّا اللقطات المثيرة للجدل فانه غالباً ما يعمد الى إبعادها عن المسرح..!!
-2-
وهذا المنحى صَوَّرهُ الحديث المروي عن الرسول (ص) :
{ حُبّكَ الشيء يُعمي ويُصمّ }
فالمحبُّ لا يرى من محبوبه الاّ البريق الآخاذ ،ولا يسمع عنه الاّ الحسن…!!
-3-
إنّ الفارق بين الغارق في العواطف ، وبين العاقل المتأمل في القضايا والمواقف ، كبير جداً فما أَبْعَدَ البون بين المعطيات العقلانية والمعطيات العاطفية ..
-4-
انّ النظرة الأحادية الجانب، نظرة لا تستوعب الحقيقة بكل أبعادها ..
-5-
قد يكون الرجل نزيهاً وطنيّاً شديدَ التلهف لنفع الناس ، ولكنّه من جانب آخر، شديد الحساسية ممن لا يوافقه على رأيه ..!!
والتبرم والضيق من آراء الآخرين ومواقفهم، ليست من الصفات المحمودة على الاطلاق .
-6-
ولا نريد الآن الدخول في ما شهدته الحياة السياسية من مصاديق ومفارقات في هذا الباب، ويكفينا ايراد (مثال) واحد ، يجسّد بوضوح ما قلناه .
في صيف 1961 أنهى الدكتور عبد الجبار عبد الله رئاسته لجامعة بغداد، وكان على وزير المعارف آنذاك – وهو الراحل اسماعيل العارف – أنْ يطلب من مجلس الجامعة ثلاثة مرشحين للمنصب، ويختار منهم واحداً يقدّمه لمجلس الوزراء لتعيينه .
وفي تلك الفترة كان الخلاف السياسي محتدما بين أعضاء مجلس الجامعة علماً بان د. عبد الجبار عبد الله كان احد خريجي جامعة هرفورد وقد خصصت له الجامعة المذكورة كرسيا للاستاذية بمقدوره ان يشغله متى شاء .
واقترع مجلس الجامعة على البديل من رشحوا أنفسهم للمنصب وكانوا ثلاثة :
د. عبد الجبار عبد الله وحصل على 12 صوتاً، و د. عبد العزيز الدوري – عميد كلية الأدب – وحصل على 13 صوتا، و د. صادق الخياط – عميد الطب البيطري – وحصل على 7 أصوات .
وقيل بان د . عبد الجبار عبد الله ألقى بورقة بيضاء ولم ينتخب نفسه .
وقرر (العارف) أنْ يطرح الأسماء الثلاثة على مجلس الوزراء ، ليفسح المجال لمدة له راي من الوزراء أنْ يدلي به أمام رئيس الوزراء صراحة
وفي ايلول 1961 طرح عبد الكريم قاسم الموضوع أمام الوزراء قائلا :
إنّ وزير المعارف تنازل عن حقه الى مجلس الوزراء في اختيار رئيس الجامعة وسوف نناقش الأسماء واحداً واحداً .
وشعر الوزراء بتحمس عبد الكريم قاسم وميله الى تجديد رئاسة د. عبد الجبار عبد الله، ولم يعترض منهم على ذلك الا الراحل ” باقر الدجيلي ” الذي اختار د. صادق الخياط .
وأخيراً وافق مجلس الوزراء على د. عبد الجبار عبد الله .
ودفع عبد الكريم قاسم بالمرسوم الجمهوري الى رئيس مجلس السيادة لكي يوقعه، ولكنّ رئيس مجلس السيادة أخذ الورقة ووضعها في اضبارة أمامه دون توقيعها .
-7-
ومرت أسابيع ولم يخرج (الربيعي) المرسوم من قبضته .
ويبدو أنه لم يكن يريد التوقيع فكيف جرى ترويضه ؟
-8-
عندما حل اجتماع مجلس الوزراء ، جلس عبد الكريم قاسم في مكانه المعتاد ، ثم نظر الى رئيس مجلس السيادة وتحدّث مجاملاً وقال :
أرجو ان يسمع المجلس ما يلي :
قررتُ باعتباري لازلت القائد العام للقوات المسلحة الوطنية الذي كان ولا يزال مصدر السلطات للنظام الثوري أن أحلّ مجلس السيادة واعيد تأليفه بعدئذ “
يقول اسماعيل العارف :
” ففوجئ الجميع بذلك ،
وسكتوا وكأنّ على رؤوسهم الطير .
أما رئيس مجلس السيادة فقد امتقع لونُه ،
وبدا عليه الارتباك واضحاً ، لأنه كان يعرف ما تخفي ابتسامة عبد الكريم قاسم من مفاجآت .
ثم قرأ عبد الكريم قاسم المرسوم وعنوان الموقع عليه ” القائد العام للقوات المسلحة الوطنية
وضغط على الجرس ، فجاء السكرتير وقال له :
” خذ هذا المرسوم وليُذَعْ في أقرب وقت.
وفي منتصف الجلسة توقف عبد الكريم قاسم وقال :
لدينا مرسوم آخر أقرأه عليكم ،
ثم بدأ يقرأ مرسوم إعادة تأليف مجلس السيادة من :
نجيب الربيعي
ورشاد عارف
وعبد المجيد كمونه
وعندما أنتهى منه ، لا حظتُ علامات الارتياح على وجه رئيس مجلس السيادة الذي ظل مع ذلك مرتبكاً طوال عقد الجلسة .
وقبيل انفضاض الاجتماع سلمّني الربيعي مرسوم تعيين رئيس الجامعة موّقعاً عليه من قِبله وبقية أعضاء مجلس السيادة }
أسرار ثورة 14 تموز / اسماعيل العارف ص320-322
أقول :
من الواضح انّ اللجوء الى حلّ مجلس السيادة، ما كان لِيَتُمّ لولا امتناع (الربيعي) عن التوقيع على المرسوم .
وتمّ ترويضه بحلّ مجلس السيادة ، فسارع الى توقيع المرسوم وتوافق مع رغبة عبد الكريم قاسم حفاظا على منصبه ..!!
-9-
ألم يكن اللجوء الى الحوار تمهيداً للوصول الى الاتفاق هو الأحسن ؟
انك تستطيع عبر الحوار أن تقنع صاحب الراي الآخر بما تراه متى ما امتلكتَ الحجة الناصعة ، والمبررات المنطقيّة .
-10-
انّ المصيبة الحقيقة تكمن في نُدْرة مَنْ يقبل بالرأي الآخر المغايِر لرأيه ، حتى اذا كان ممن يكثر من ذلك الادعاء جزافاً .