بعد عقود من التدمير الممنهج لكل شيء في العراق منذ أواخر الستينات من القرن الماضي وحتى عام 2003 وصل حال كل شيء الى الحضيض وكان من ضمن ذلك التعليم العالي في العراق. فبعد ان كانت الجامعات العراقية قبلة الطلبة العرب والأجانب لنيل شهادات مرموقة وتعليم عالي رصين في القرن الماضي وبعد ان كان الترتيب العالمي للجامعات العراقية في مراتب متقدمة مقارنة بكل الجامعات الأخرى في الشرق الأوسط، وصل الحال الى ان تفرغ الجامعات من الكفاءات وتخلوا المناهج من العلم الحديث وتكتفي بسرد تاريخ العلوم والآداب في كل التخصصات بلا استثناء. بعد التغيير عام 2003 استبشر الجميع خيراً ورغم الماسي والنكبات كانت هناك لمحات مضيئة تبشر بخير وامل وغد مشرق ومنها برامج البعثات الدراسية في الخارج حيث انبرى مجموعة من المخلصين والحريصين على مستقبل البلد ممن يؤمنون ان الأوطان لا يبنيها الا علمائها المخلصون وابنائها البررة فقاموا بترتيب مجموعة من الاتفاقيات الدولية لبعث الالاف من الطلبة العراقيين للدراسة في الخارج على نفقة الدولة وعلى النفقة الخاصة وفعلاً بدأ البرنامج عمله وعاد الالاف من المبتعثين يحملون معهم كل جديد ومفيد من علم ومعرفة وطموحات وأفكار لإصلاح الواقع البائس وهم مستمرون في ذلك ان شاء الله.
مع شديد الأسف يبدو ان الامر لم يرق للكثيرين من المعتاشين على جهل الشعب ومعاناته وممن يبغضون كل نجاح وتفوق وعلم وعمل ويسعون الى إبقاء الفوضى ليستمر ملء جيوبهم وكروشهم بأموال الشعب وربما خافوا من صوت المثقفين والمتنورين ان يعلوا ويوقف فسادهم فبدأوا برنامجاً ممنهجاً لتخريب كل ذلك وارجاع العراق الى الوراء مرة بمحاربة أصحاب الشهادات العليا وعدم اتاحة الفرصة لهم في مؤسسات الدولة المختلفة ومرة بعدم احتساب شهاداتهم والان بتقليل رواتبهم وحرمانهم وعوائلهم من الضمان الصحي والعيش الكريم. حيث صدرت مجموعة من القرارات المجحفة والغير مدروسة في شهر شباط من هذا العام وأدت الى موجة عارمة من التنديد والاستنكار والمظاهرات والوقفات الاعتصامية للطلبة مطالبين برفع الظلم عنهم وإتاحة الفرصة لهم ليكملوا مشوراهم الدراسي والهدف الذي تغربوا وتركوا الاهل والوطن من اجله.
جاءت هذه القرارات بحجة التقشف والعجز المالي وان الدولة غير قادرة على دفع مستحقات الطلبة المالية والتي تم توقيع عقود قانونية بين الطلبة والوزارة تؤكد التزام الوزارة والدولة بشكل عام بدفعها كأحد الشروط في العقد ولمن لا يعرف تأثيرات هذه
القرارات على الطلبة نذكر لكم بعضاً مما جادت به ايدي القانونيين والملحقيات الثقافية في بلدان الابتعاث وما خفي كان أعظم والى الله المشتكى:
1- ان التخفيض المنصوص عليه في القرارات الجديدة سيجعل سمة الإقامة للكثير من الطلبة في الكثير من الدول لاغية وغير صالحة لأن تلك الدول منحت سمة الدخول الى الطالب بموجب كتاب الدعم المالي المقدم لهم من الدولة العراقية ولأن تلك الدول لا تسمح لمن هم (تحت خط الفقر) بالإقامة في أراضيها مما سيجعل تلك الدول (تطرد) وببساطة الالف الطلبة الدارسين للماجستير والدكتوراه بعد ان صرفت الدولة العراقية عليهم الملايين وبذلك تكون تلك القرارات قد ساهمت في تضييع وهدر المال العام بإجهاض الهدف من صرفه بالدرجة الأساس.
2- ان التخفيض المنصوص عليه في هذه القرارات سيجعل الطلبة في ضيق وحرج معيشي يضطرهم الى ترك الدراسة والبحث عن عمل يسد رمقهم هم وعوائلهم في بلدان غالية المعيشة لا يصمد فيها من لا يعمل او يمتلك دعماً مالياً معيناً.
3- ان تقليل الضمان الصحي بنسبة 90% يعني ان يبقى الطلبة العراقيون وعوائلهم في تلك البلدان بدون رعاية صحية ولمن لا يعرف فأن التداوي والعلاج والاستشارات الطبية في البلدان الأخرى غالية جداً وكمثال فقط فأن المبيت في أي مستشفى قد يكلف 5000 دولار (6 ملايين دينار عراقي) بدون ضمان صحي مما يؤدي الى كوارث صحية للطلبة وعوائلهم ان بقي الضمان الصحي على وضعه الحالي.
4- ان بقاء هذه القرارات بدون الغاء سيؤدي الى اعتبار الدولة العراقية كممول مالي للطلبة كجهة (غير موثوقة) لأنها أعطت ضماناً مالياً لألاف الطلبة وستقوم بالإخلال به مما سيؤدي الى انعدام فرصة قبول الطلبة العراقيين في الجامعات الرصينة في المستقبل وهو امر سينعكس سلباً على أجيال متتالية من العراقيين الطامحين الى مساوات غيرهم من الطلبة في بقية دول العالم.
5- ان اجهاض مشروع الابتعاث الخارجي سينتج نتائج كارثية على مستقبل العراق الذي هو اصلاً غامض ومجهول الان ولا يخفى على أحد ان هؤلاء المبتعثين هم الامل للعراق فثروات الدول اليوم لا تقاس بما تملك من صناعة وتجارة وموارد طبيعية بقدر ما تملك من عقول وكفاءات وخبرات.
ان كل ما سبق وأكثر قد قاله اخوتنا الطلبة في مظاهراتهم واعتصاماتهم وايدهم في ذلك المرجعية العليا بمطالبتها بإلغاء هذه القرارات وايدهم ايضاً قانونيون اطلعوا على تفاصيل القضية وملحقيات ثقافية ولاقت مطاليب الطلبة تعاطف الكثير من اساتذتهم في الجامعات الأجنبية وزملائهم الطلبة الأجانب وبعد ان استبشرنا خيراً بأن هذه القرارات ستلغى وان الطلبة سيعودون الى حياتهم الطبيعية لينشغلوا بتحصيل العلوم والمعارف فوجئنا بظهور المتحدث باسم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في احدى القنوات التلفزيونية يتحدث عن ارقام وموازنة وادعاءات لا يقبلها عاقل وان الطلبة (بنوا بيوت من راتب البعثات!) وانهم (يعيشون في بحبوحة من العيش!) وان (الراتب كافي وزايد!) واشياء أخرى من هذا القبيل وأتمنى من الأخ المتحدث ان يأتي فقط الى أي دولة من هذه الدول ويذهب الى محل الخضار ليرى كم سعر ابسط متطلبات الحياة اليومية هنا؟ انها بمئات الاضعاف والله ولمن شاء المزيد من التفاصيل فالحصول عليها سهل جداً من الانترنت فأسعار كل شيء هنا مرتفعة جداً الى درجة لا يبقى معها من الراتب (القليل اصلاً) الا ما يسد الرمق ثم تأتينا قرارات التقشف والتخفيض فنبقى في حيرة من امرنا لا نعرف ما نفعل، ونبدأ بالتساؤل في أنفسنا هل هذه هي رسالتنا التي تركنا الاهل والمال والولد من اجلها؟ وهل نحن رخيصون الى هذه الدرجة في اعين المسؤولين الحكوميين؟ وهل ان التقشف يتوقف على وراتبنا فقط؟ وهناك من يستلم مخصصات (تحسين معيشة) بعشرات الالف الدولارات!!
منذ شهر تتوالى علينا الضربات والصدمات الى درجة اذهلتنا وجعلتنا نفكر ان هناك استهداف منهجي لكل حركة وعلم وعمل في العراق واخر ما جاءنا اليوم ان “الخبير القانوني” طارق حرب يقول ان البعثات فساد مالي واداري وتضييع لميزانية الدولة في غير محلها وان راتب المبتعث أكثر من راتب الوزير وعضو مجلس النواب! وانه يدعوهم (الوزراء وأعضاء مجلس النواب) الى التظاهر للمطالبة بأن تتساوى رواتبهم براتب الطالب المبتعث ويذكر ارقام وهمية خيالية لا تتفق مع أي جدول رواتب ومخصصات لأي مبتعث في أي دولة وأتمنى ان يراعي السادة المعنيون والمسؤولون الدقة والانصاف قبل التصريح والتجريح والتهجم واخيراً لا أقول الا: اللهم انتقم من كل عديم ذمة وضمير وانصرنا على من استهدفنا واراد بنا وبوطننا كل سوء وشر.