على الرغم من الأهمية القصوى التي يمثلها نمط الشخصية الزعامة في بنية الدولة وهرم السلطة ، لجهة تأطير التوجهات الفكرية وتحديد الخيارات السياسية وبلورة التصورات الإستراتيجية ، إلاّ أن ذلك لا يبيح اعتمادها كمعيار لتقييم نجاح تلك الشخصية أو فشلها في إدارتها للشأن العام وقيادة المجتمع ، إنما ينبغي الركون إلى كم ونوع (الانجازات) التي تحققت بجهودها الفعلية وتحت قيادتها الميدانية . ومن هذا المنطلق يجب أن ننظر إلى سياسة رئيس الحكومة الحالية (حيدر العبادي) ، ونقيّم من ثم مستوى أدائه وحظوظ ناجه أو إخفاقه في هذا الأداء . هذا وقد لوحظ على السيد (العبادي) انه ومنذ استلامه رئاسة الحكومة ولحد الآن ، انه يعتمد سياسة (الصدمة) الخطابية في الترويج لمواقفه والتسويق لسياساته ، لا بالمعنى السلبي لمفهوم الصدمة الذي يحدث الدهشة والارتباك ، وإنما بالمعنى الايجابي الذي يؤكد على مغايرة السائد من التصورات ومخالفة الشائع من التوقعات . لاسيما وانه ينتمي سياسيا”وإيديولوجيا”ومذهبيا”إلى كتلة تجمعه مع الكثير من عتاة التطرف الطائفي واللصوصية المالية . ولهذا فهو يفاجئنا حين بتحدث عن محاربة ظاهرة الفساد ونيته في مطاردة المفسدين (حتى ولو تطلب الأمر اغتياله – حسب قوله ) ، في الوقت الذي كان ضمن طاقم السياسيين المقربين إلى رئيس الوزراء السابق (المالكي) الذي ارتبطت بفترته الرئاسية أعلى معدلات الفساد والجريمة منذ عام 2003 ولحد ومنتصف عام 2014 . كما وإن السيد (العبادي) يدهشنا حين يتحدث عما ينوي فعله إزاء دزينة الملفات العالقة دون حل منذ عقد من السنين (المصالحة الوطنية) و( قانون المساءلة والعدالة) و(قانون النفط والغاز) ، ناهيك عن قوانين مكافحة إرهاب المؤسسات والمليشيات ، وإعادة الهيبة للدولة المستباحة وفرض سلطة الفانون المنتهك ، وووو ، الخ . في الوقت الذي يبدو إن حلم المصالحة أصبح بعيد المنال ، وان لا مساءلة ولا عدالة في دولة أضحت حاضنة لتفريخ العنف وتناسل الكراهيات ، وان ثروة النفط والغاز التي كان يفترض بها أن تكون نعمة على الشعب العراقي تحولت إلى نقمة لم تبرح تهدد وجودنا بالحرائق ، وان القبضة (الحديدية) التي أريد لها أن تقمع الإرهاب وتردع الإرهابيين استحالت إلى قبضة (خشبية) لن تخيف أحد . وهكذا لم يطل بالعراقيين الأمد حتى استفاقوا على دوي المفخخات وضجيج المليشيات تحصد أرواح العشرات من الناس الأبرياء ، بعد أن كان مخدر الخطابات الجريئة والوعود المطمئنة قد تركهم ينتشون في سراب من الأمن الهش والأمان القلق . ليس فقط لأن (العبادي) بات محاصرا”بالعديد من الخصوم والمنافسين الخطرين ، الذين عزموا النية على إفشال كل ما ينوي اتخاذه من قرارات والقيام به إجراءات فحسب ، بل وكذلك – وهنا الأهم برأينا المتواضع – لأنه غير قادر على تحويل خاطباته الجريئة إلى انجازات واقعية ومعطيات ملموسة .
بحيث يشيع الانطباع لدى كل الفرقاء السياسيين بأنه جاد فعلا”على رجل دولة حقيقي ، ومن ثم وضع حدا”لكل المظاهر الشاذة التي لم تفتأ تهدد العملية السياسية بالانهيار . ولكي نكون منصفين فان هذه الحالة من التوتر السياسي والتفجر الأمني والتقهقر الاقتصادي والتذرر الاجتماعي ، لم يكن تردد وضعف عزيمة (العبادي) وحده مسؤول عنها ، بقدر ما يتحمل وزرها أيضا”طاقم المحيطين به في السلطة وثلة المشاركين له في الدولة . ولهذا فان المخرج من هذا الخانق القاتل يتطلب – في إطار هذه الظروف العصيبة التي يمر بها العراق – أن يكون (العبادي) على قدر من القدرة والجدية على ترجمة خطاباته إلى أفعال ملموسة وانجازات واقعية ، دون أن يصغي لإيحاءات أولئك الذين يحاول إعاقته عن قيامه بواجباته ، أو ثنيه عن الشروع بتنفيذ سياساته من جهة ، مثلما يتوجب على شركاء العملية السياسية أن يكونوا على قدر من تحمل المسؤولية الوطنية ، ويقلعوا عن ظاهرة (الزعل) السياسي كلما شعروا بان الحكومة قد خذلتهم في قضية من القضايا ، أو تنصلت عن وعودها حيال حق من الحقوق من جهة أخرى . فإذا كان لهم أن يتخذوا موقفا”رافضا”إزاء إخفاقات الحكومة وتعثرها ، فالأخرى أن يختاروا موقع (المعارضة) السياسية بدلا”من (المقاطعة) الأقوامية والطوائفية ، ذلك لأن سفينة العراق المبحرة صوب المجهول لا تتحمل أن يترك ربانها وسط ريح عاتية وأمواج متلاطمة ، وهي تعاني كثرة الشقوق في بنيتها والتصدعات في طاقهما !! .