إفلاس العراق , تحول الى أحاديث بين أغلب العراقيين إذ غالبا ما يتم تداوله في العلن والسر , فهناك من يعتقد بان الدولة في حالة افلاس وسوف يتوقف دفع الرواتب لمستحقيها خلال الشهرين القادمين على الاكثر , والسبب في هذا الشعور الذي تحول الى مصدر قلق لذوي الدخل المحدود من الموظفين الحكوميين وغيرهم , ما تم سماعه من تصريحات اثناء التداول بموضوع مشروع موازنة 2015 عند إحالتها الى اللجنة المالية في مجلس الوزراء , فاخطر هذه التصريحات اشارت بان البلد يحتاج الى تصدير 3 ملايين برميل نفط يوميا لدفع رواتب الموظفين البالغة 51 تريليون دينار , وفي الوقت نفسه كانت التقارير الرسمية تؤكد بان معدل الصادرات اليومية الفعلية لا يزيد عن 2,5 مليون برميل يوميا , كما ان بعض السياسيين أكثروا من تصريحاتهم التي تقول ان خزينة الدولة خاوية وقد نفذت خلال عام 2014 بسبب غياب الموازنة الاتحادية .
ومن يتكلم عن افلاس العراق واهم كل الوهم , فالعراق ليس شركة تجارية او دكان لكي يعلن افلاسه بل هو دولة ولها اركانها وثرواتها والعسرة المالية لا يمكن ان تتحول الى افلاس , وان حقيقة ما حصل هو ان اسعار النفط قد انخفضت خارج التوقعات , ولم يكن العراق هو البلد الوحيد الذي تأثر بهذا الانخفاض لان العديد من الدول المنتجة للنفط تأثرت بهذا الانخفاض , رغم انها تتمتع باستقرار سياسي ولديها تنوع بمصادر الدخل احسن من العراق , دون ان نهمل الظرف الذي يمر به بلدنا في مواجهته للإرهاب الداخلي والخارجي , فهذا الظرف لا يزيد من النفقات العسكرية فحسب وإنما يوجد التزامات اضافية كدعم النازحين ووجوب الاعمار وتوقف بعض الصادرات عبر الانابيب التي تمر في المناطق الساخنة , ناهيك عن انشغال الابناء بالدفاع عن الوطن وتعرض بعض المناطق الزراعية والصناعية الى توقفات وإتلاف المحاصيل والمنتجات مما يؤدي للتأثير على الناتج المحلي الاجمالي .
ولو كانت الطاقات التصديرية للنفط قابلة لاستيعاب الزيادة في الانتاج لتمكن العراق من تعويض انخفاض الاسعار من خلال زيادة الصادرات , مما يجعل تأثير الازمة اقل ولكن ما حصل هو شبه توقف لصادرات كركوك وغيرها في المناطق الشمالية , مما اضطر الحكومة لعقد اتفاق مع اقليم كردستان لتمرير 350 الف برميل يوميا من خطوطهم التي تذهب الى ميناء جيهان التركي , وبما يضمن تصدير ما مجموعه 550 الف برميل منها200 الف برميل عن حصة كردستان بموجب المادة الاولى من قانون الموازنة الاتحادية العامة لعام 2015 , وقد كان هناك عاملا مضافا في الازمة وهو بقاء العراق بدون موازنة خلال سنة 2014 , حيث تم الصرف بطريقة السلف مما ضيع الكثير من المعالم عن اوجه وقانونية الصرف , وهو موضوع يتم الاهتمام به من قبل اللجنة المالية لمجلس النواب لغرض المصادقة على موازنة 2014 وإجراء التسوية الحسابية للصرف , على امل ان تتم مطاردة الاموال التي يثبت اهدارها بالفساد .
وقد يسال احدا اذا كانت الايرادات النفطية قد انخفضت فكيف سيتم تدبير نفقات الموازنة وجدولة المصروفات , وهو تساؤل مشروع لان مقدار النفقات الشهرية اكثر من الايرادات الشهرية من مبيعات النفط , فقد بلغت المبيعات حوالي 3,5 مليار دولار نهاية كانون الثاني الماضي في حين ان النفقات ضعف هذا المبلغ وتتعلق بالرواتب وأبواب الصرف ضمن الموازنة التشغيلية , ولغرض ايضاح كيفية معالجة الفرق فانه يتم اللجوء الى الاحتياطيات وفي حالة استمرار العجز فان مواد قانون الموازنة قد اوجدت مجالات لإصدار حوالات الخزينة , كما تم تخويل وزير المالية بالاقتراض الخارجي فهناك العديد من الدول والمنظمات لديها الاستعداد لإقراض العراق بشروط ميسرة , باعتبار ان ضمانات خدمة الدين وتسديده متوفرة نظرا للمكانة الاقتصادية لبلدنا باعتباره يمتلك احتياطيات كبيرة من النفط والثروات الاخرى , والاقتراض هي سياسة متبعة ي اغلب البلدان ومخاطرها ليست عالية مادامت الديون مؤكدة السداد من ايرادات النفط .
ومن المؤشرات بإعطاء الامل بزوال الازمة او انحسار اثارها السلبية هو الارتفاع الذي تشهده اسعار النفط , فتقديرات الموازنة وضعت على اساس اعتماد 55 دولار للبرميل وقد شهدت الاسواق العالمية ارتفاع برميل برنت الى 60-62 دولار خلال الايام الماضية , مما سيعني تدفق ايرادات اكثر من المخطط وبشكل يمكن من تعويض السحب من الاحتياطيات , بما يؤدي الى توفر الامكانية في تغطية العجز لضمان دفع الرواتب وتمشية الاعمال بنفقات تقشفية , ولكي تزداد القدرة على مواجهة العجز في تلبية النفقات الحاكمة فانه من الضروري استثمار الزيادة في اسعار النفط بتصدير اكبر كميات ممكنة , باعتبار ان استمرار الزيادة في الاسعار غير مضمونة قط لأنها تتعلق بحالات العرض والطلب في الاسواق العالمية , ونشير بهذا الخصوص الى ان الصادرات الحالية هي اقل من الصادرات المخططة التي تبلغ 3,3 مليون برميل يوميا , فقد بلغت الصادرات 1,7 مليون برميل يوميا بسبب سوء الاحوال الجوية في موانئ الجنوب ولم تزيد عن 2,6 مليون يوميا في احسن الظروف , مما يعني بان ايرادات شباط الحالي ستكون منخفضة واقل بكثير جدا من التوقعات , وهو ما يعني هدر الفرص من زيادة الايرادات هو لايعني التوجه نحو افلاس العراق وإنما لزيادة العسرة المالية فالعسرة ليس من الضرورة ان تؤدي الى الافلاس في كل الاحوال .
ويفترض ان تكون الازمات التي يمر بها الاقتصاد الوطني محفزا للمعنيين في تنويع مصادر الايرادات لتقليل المخاطر , من خلال تنشيط الزراعة والصناعة والسياحة الدينية واستثمار الموارد الاخرى التي يمتلكها العراق , ولكن الخطوات في هذا الاتجاه تشهد تباطئا واضحا نظرا لحداثة عمر الحكومة الحالية ووجود مشاكل متداخلة تتعلق بجوانب متعددة , بشكل يجعل من النهوض السريع امرا صعبا ان لم يكن مستحيلا في الامد القريب , ورغم هذه النظرة غير المتفائلة فإننا نؤكد بان الحكومة لا تعاني من الافلاس , ولا يمكن ان تعلن الدولة العراقية افلاسها في يوم من الايام , فاغلب ملكية الأراضي والعقارات والصناعة والخدمات والمعادن وغيرها هي من الثروات التي تعود للدولة , ولو ازداد عسرها ( مثلا ) فأنها تستطيع تحويل الكثير من الثروات الى اموال سائلة ايجارا او استثمارا او بيع , ولا نعتقد انها ستفعل ذلك رغم ان العديد من المختصين يؤشرون سوء ادارة الثروات والملكية في العراق , وهي مسالة ورثناها من العقود السابقة وقد تكون السبب الرئيسي لسوء ادارة الاقتصاد , وقد تحولت الى مرض مزمن في العراق .