(التَّنَازُلُ عَنّْ القِيَمِ لِتَحقِيْقِ المَصَالِح)
في الحَلَقَةِ الأُولى من هذا المقال، بَيَّنْتُ الخلفيَّةَ القيَميَّة، الّتي يَستندُ عليها ساسةُ الغَرب عموماً، عنّْد إِقامة علاقاتهم، مع شعوبهم في الدَّاخل، و مع الشُّعوبِ الأُخرى في الخارج. فبالوقت الذي يؤكدونَ فيه أَمامَ شعوبهم، تمَسُكهم بالقيَمِ الدّيمقراطيَّةِ و حقوقِ الإِنسانِ، فإِنَّهم لا يتورَّعونَ أَبداً، منَ التَّعامُلِ مع أَنظمة غاية في التَّفريط، بقيَمِ الدّيمقراطيَّةِ و حقوقِ الإِنسان، لا بلّْ نَجدهم يمجّدون النُّظُمَ الدِّكتاتوريَّة، الأَكثر انتهاكاً لحقوقِ الإِنسانِ، و الأَكثر قهراً لشُعوبهم، من أجلِ ضمان بعض المصالح السياسيَّة. و لعلَّ خيّْرَ شاهدٍ على ذلك، قيام زعامات سياسيَّة مرمُوقَة من العالم الحُرِّ، بالاشادَةِ بدور مَلِكَيّْنِ مُتعسِّفيّْنِ، في نظامٍ دكتاتوريّ قَبَليّ، يختَزِلُ كُلَّ الإِراداتِ، و يجعلها أَسيرةً لإِرادة أَشخاص معيَّنين من عائلة واحدة، كما هو الحال في حكم آل سعود. في هذه الحَلَقَةِ استكملُ مناقشَةَ الموضوع فأقول:
إِنَّ تسويقَ الأَفكارِ، صناعَةٌ إِعلاميَّة جديدَةٌ، لها قوانينها و ضوابطها، كما أَنَّ لها خُطَطَها و أَهدافَها، الّتي تسعى هذه الصناعة لتحقيقها على أَرض الواقع. و الإِعلام الغربي عموماً، و الأَمريكي خصوصاً، له قَصَب السبق في هذا الميدان، بسبب تركيّبةِ الأَنظمةِ السياسيّة في العالم الغربي،الّتي تعتمدُ على اسلوب برمجة عقول الجماهير و تهيأتها، لتَقَبُلِ أَفكارِ صُنّاعِ السياسَةِ، بقناعَةٍ و رِضاً. كلّ ذلك يكونُ من خلالِ أَنشطةٍ إِعلاميَّةٍ، تَستهدفُ التأثيرَ على قناعات المواطنيين، و هذا ما يَعرَف بفنِّ الدِّعايَة.
و مجموعة الـ(CNN)،من المؤسسات الإعلاميّة الأَمريكيّة، المتخصصة في تسويق الأَفكار إِلى الجمهور، باستخدام فنون الإِعلام المختلفة. و بما أَنَّ حدثَ
وفاةِ الملكِ السُعودي (عبد الله) في 23 كانون الثاني 2015، و تولي أَخيه (سلمان)، مقاليد الحكم السُعودي، فهذا الحدث يستحق (من وجهة نظر السَّاسة الغربيين) تسليط الضَّوء عليه، ليس لسواد عيون الملكين فَحسبّْ، و إِنَّما لدوافع مصلحية، يطمح لتحقيقها الساسة الغربيون.
فانبرت الـ(CNN) لتسويق الملكين (الميّت و الحيّ)، على إِنَّهما من روّاد الإِصلاح المجتمعيّ في المنطقة. و جنَّدت الـ(CNN) اعلامييها في إِعدادِ تقريرٍ، لهذا الغرض. فقدّْ قامَ فريقٌ من اعلاميي الـ(CNN)، مكوّن من (نيك روبرتسون، بيكي أندرسون، و كريستيان أمانبور)، باعدادِ تقريرٍ يحملُ عنوانَ: (إِرث العاهل السعودي الملك عبد الله: 5 أشياء يجب معرفتها.)(موقع CNN).
ومضى التقريرُ يُسَطِّرُ الاكاذيب المفضوحة، بادِّعاءِ جملة من الاصلاحات الاجتماعيّة، الّتي حقَّقها (عبد الله بن عبد العزيز). فقد ذكَرَ التَّقريرُ أَهمَّ مُنجزاتِ الملك. و وضعت هذه المنجزات، كعناوين فرعية في متن التقرير، و هي:
1. إِصلاحات للنساء.
2. تضييق الخناق على تنظيم القاعدة.
3. تثقيف الشباب.
4. إصلاح الاقتصاد.
5. تزايد مكانة السعودية على الساحة العالمية.
هذه التغطية الإِعلاميّة، لحدث موت الملك السعودي (عبد الله)، تعكس عمق الاطماع الأَمريكيّة و الغربيّة، في منطقة نجد و الحجاز، لما تمتلك من مخزون استراتيجي من البترول، أَكثر مما تعكس العلاقة الحميمة، بين السّاسة الأَمريكان و الغربيين، و بين أَفراد عائلة آل سُعود الحاكمة، الذين بلغ بهم العمر عتياً، و بدَتّْ حالةُ الوهن الذهني و الخَرَفِ العقلي، ظاهرةً للعيان عليهم، بدون أَدنى شكّ.
إذن أُولئك السّاسة، يقيمون علاقة نفاقيّة، مع النظام السُعودي، مقابل معادلة نتيجتها (النفط مقابل حكم آل سُعود). و توخياً للأختصار، سأَقتطف مقاطع من تصريحات بعض السّاسة الغربيين، الذين تمادوا في مصانعة آل سُعود، على حساب القيم التي ينادون بها، عندما قدّموا التعازي، بمناسبة وفاة ملك آل سُعود (عبدالله). و سأَترك متابعتها التفصيليّة للقارئ الكريم، بعدما وضعت إِزاء كلّ منها، رابط المصدر الذي استقيّْت منه المعلومة.
* (إنه كزعيم كان دائمًا صريحًا، كما كان شجاعًا في قناعاته. وكانت إحدى هذه القناعات تتمثل في اعتقاده الراسخ بأهمية العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية كقوة للاستقرار والأمن في الشرق الأوسط وخارجه. إن التقارب وقوة الشراكة بين بلدينا هما جزء من إرث الملك عبد الله). (بيان الرئيس اوبا حول وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز.).
* (لقد فقدت الولايات المتحدة صديقًا، كما فقدت المملكة العربية السعودية والشرق الأوسط والعالم أجمع زعيمًا مبجّلا. …. وكان فخورًا للغاية بمسيرة المملكة ودورها كشريك شجاع في مكافحة التطرف العنيف، وهو دور مهمّ بقدر أهمية دورها في مناصرة السلام. إن مبادرة السلام العربية الشجاعة التي تبنّاها تظل وثيقة حاسمة الأهمية من أجل تحقيق الهدف الذي نتشاطره: قيام دولتين، إسرائيل وفلسطين، تعيشان في سلام وأمن.)(بيان الوزير جون كيري حول وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز.).
* (وإنني آمل بصدق أن تستمر العلاقات الراسخة والعميقة بين مملكتينا، وأن نواصل العمل معا لتعزيز السلام والازدهار في أنحاء العالم.) (تصريح رئيس الوزراء الريطاني حول وفاة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله.).
* (ولفتت وزارة الدفاع الأمريكية إلى أن اللقاء الأول بين ديمبسي والملك عبدالله جرى عام 2001، عندما كان الأول برتبة عميد ويعمل بصفة مستشار عسكري لدى الحرس الوطني السعودي، ونقلت عن رئيس الأركان الأمريكي قوله: “خلال فترة عملي في تدريب قواته العسكرية وتقديم الاستشارات لها اكتشفت الشخصية المميزة والشجاعة للملك). (بيان صادر عن وزارة الدفاع الأمريكية).
* (وقال أوباما في مقابلة مع الـ ” CNNعلينا في بعض الأحيان أن نوازن ما بين الحاجة للحديث معهم حول قضايا حقوق الانسان، والاهتمامات
الآنية، حيث نعمل الآن على مكافحة الإرهاب والتعامل مع الاستقرار في الإقليم.)(مقابلة سي أن أن مع الرئيس اوبا عند توجهه لزيارته السعودية).
* (10مسؤولين أمنيين وعسكريين حاليين وسابقين و 3 وزراء خارجية ضمن وفد أوباما بالسعودية.)(موقع سي ان ان يالعربية.).
* (وحيا أمين عام الأمم المتحدة (جهود الملك عبد الله في مواجهة تحديات إقليمية ودولية في ظل اضطرابات وتغيرات سريعة، ودعم الحوار بين العقائد المختلفة في العالم.)).(موقع أخبار مصر).
و إِذا كان منهجُ تبييض صورة الملك الميّت (عبد الله) إِعلاميّاً، فكيّف سيكون الموضوع، مع صورة الملك الحيّ الواهن و الطاعن بالسنّْ (سلمان)؟.
و جدير بالذّكر أَنَّ الخلفيّة التاريخيّة للملك (سلمان بن عبد العزيز)، معروفة تماماً، عند دوائر المخابرات الأمريكيّة و الغربيّة. فالملك الجديد (سلمان)، يمتلك سجلاً أَسوداً في دعمه للارهاب، فقدّْ قدَّمَ أَموالاً طائلة لتنظيم القاعدة، و لعدد من الحركات المتطرّفة. و لابدَّ من التّوقف، على ما كشفته المجلة الأمريكية (السياسة الخارجية) (Foreign Policy Magazine)، في عددها الصادر، في بداية شهر شباط 2015، و التي جاء فيها ما يلي: (…. وقال المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات المركزية (بروس ريدل): أن (الملك الجديد للسعودية سلمان بن عبد العزيز كان الجامع الرئيسي لتبرعات ما يسمى بالمجاهدين في أفغانستان خلال ثمانينيات القرن الماضي، ولمسلمي البوسنة إبان أزمة البلقان في التسعينيات من القرن الماضي)، موضحا أن (سلمان كان يعمل بشكل وثيق جدا مع المؤسسة الدينية الوهابية في المملكة). و جدير بالذكر أَنَّ (حجم التبرعات السعودية خلال الثمانينيات للمجاهدين في أفغانستان قد تراوحت ما بين 20 – 25 مليون دولار كل شهر)… من جانبها، قالت مؤلفة كتاب (أكثر سمكا من النفط)، (راشيل برونسون)، حسب تقرير المجلة الأمريكية: أَنَّ (سلمان كان يقوم بتجنيد مقاتلين لعبد الرسول سياف، مقاتل السلفية الأفغاني، الذي كان يعمل مرشدا لأسامة بن لادن، و العقل المدبّر لأحداث 11 أيلول في الولايات المتحدة خالد شيخ محمد) …. . وأشارت المجلة الأمريكية الى أن: (الملك الحالي سلمان كان قد شغل منصب رجل التمويل السعودي لدعم وكلاء الحرب الأصوليين في مناطق الحرب بالخارج …. وتم تعيينه لتشغيل لجنة جمع التبرعات
بدعم من العائلة السعودية لدعم المجاهدين ضد السوفيت.) (انتهى مع شيء من التصرّف لأغراض الاختصار).(موقع السومرية نيوز).
إِنَّ أَحداثَ الحاضر، تؤكّدُ تمسكَ سَاسَة أَمريكا و سَاسَة الغرب، بالقيم المصلحية (الميكافيليّة)، و تفضيلهم لها على كلّ مبادئ الدّيمقراطيّة، و حقوق الإِنسان، الّتي يُسَوِّقونَ (نظرياً) تمسّكهم بها، لتمرير سياستهم داخلياً و خارجياً، عن طريق خداع الشعوب و استغفالها.
و من المعلوم للجميع، أَنَّ لحكام آل سُعود، أَسوءَ السّجلات في العالم، فيما يتعلّق بملفات الحقوق الدّيمقراطيّة، و حقوق الإِنسان، و الحريات العامّة، و حقوق المرأة، و يتمثّل ذلك، بممارسة أَبشع أَنواع التعسُّف، في قمع الجماهير المطالِبَةِ بحقوقها المشروعة، و تبنّي سياسة الإِقصاء، و هضم الحريات، و تكميم الأَفواه. لا بلّ أَكثر من ذلك، فقد أَرسل هذا النّظامُ القمعي، قواتَه العسكريّة (درع الجزيرة)، إِلى البحرين، ليُساعد النّظام الحاكم في البحرين، في قَمع جماهير الشَّعب البحريني، الّتي تُطالب بحقُوقها المشروعة، بطريقة سلميّة.
إِنَّه النِّفاق السّياسيّ من قبل سَاسَة الغرب، من أَجل تحقيق مصالحهم، و هذا النِّفاق يؤدي بالنتيجة، إِلى تشجيع الحكّام، على زيادة قهر الشعوب المظلومة التي يحكمونها بالجَوّر. و هذه الخطيئة كررها و يكررها السَاسة الامريكيّون و الغربيّون، مع الكثير من شعوب الشرق الأوسط. فقد مارسوها مع الشعب الإِيراني، في زمن حكم الشاه، و مع الشعب العراقي، إِبّان حكم صدام المقبور، و مع الشعب المصري و التونسي و الليبي… الخ، في زمن الحُكّام الطّغاة، الّذين حكموا تلك الشُّعوب. و ليعلمَ أُولئك السَاسَة الأَمريكان و الغربيون، إِنَّهم قدّ فقدوا مصداقيّتهم، عند الضمائر الحيّة للشعوب المقهورة. و إِنَّ اخطاءَهم لا تَغفرها لهم الإِنسانيّة، و لا يغفرها لهم التاريخ، و نتائج ذلك ستَظهر على أَرض الواقع، و لَو بعدَ حين.