بادئ ذي بدء نقول إن الحديث عن الغرب يعني الحديث عن أمريكا ، مثلما إن الإشارة إلى هذه الأخيرة يتضمن الإشارة إلى الأول . ذلك لأن حكومات ومجتمعات ذلك العالم – حتى وان بدت المصالح تفرقها والأطماع تباعدها – تبقى منتمية إلى أصول حضارية واحدة ، ومتبنية لعقيدة دينية مشتركة ، ومنظوية في إطار إستراتيجية كونية موحدة . والحال انه في الوقت الذي يتزعم هذا الغرب الحملة العالمية لمكافحة ما يزعم بالإرهاب الدولي المستشري من جهة ، ويذرف دموع التماسيح مدرارا”، من جهة أخرى ، على حقوق الإنسان المهدورة . ينسى عالم الغاب هذا – والأحرى انه يتناسى – إن جراثيم العنف وطفيليات الموت التي لم تفتأ تجتاح أركان المعمور الأربع ، وتفتك بأرواح الآلاف من كل الأقوام والأديان والمذاهب ، هي من ابتكار عقل مخططيه ، وصنع مراكز أبحاثه ، ودعم مؤسسات استخباراته ، وتشجيع قادة حكوماته . هذا بالإضافة إلى إن كل ما يدعيه المسؤولين (المتحضرين) في لقاءاتهم ومؤتمراتهم ، وكل ما يزعمه الإيديولوجيين (العلمانيين) في خطبهم وإعلامهم ، لا يعدو أن يكون سوى ضرب من ضروب النفاق الدبلوماسي والتضليل الميديائي ، الذي يجيدون أساليب ممارسته ويتقنون فن تسويقه . وذلك لذر الرماد في عيون الرأي العام العالمي ، والتمويه على جرائمهم البشعة في جعل ماكينة الموت والفناء تدور بهذه القسوة والوحشية ، لتطحن الشعوب التي ابتليت بأطماعهم الدنيئة وأهدافهم اللاانسانية . ليس فقط إبان عهود الاستعمار القديم وما نجم عنها وترتب عليها من بشاعات وفضاعات يندى لها الجبين فحسب ، وإنما حيال ما يدور اليوم من إبادات فضيعة وانتهاكات شنيعة لم يشهد لها تاريخ الإبادات البشرية مثيلا”من قبل . وعلى هذا فمن حقنا أن نتساءل ؛ من سوى الغرب / أمريكا من أوجد هذه الأشكال وتلك الأنواع من التنظيمات الأصولية المتطرفة ، التي لم تبرح تستبيح دماء الناس الأبرياء من دون رحمة أو شفقة ؛ ابتداء بفرق الموت في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ، وانتهاء بتنظيمات الدولة الإسلامية (داعش) التي باتت تهدد الكثير من الدول ، مرورا”بجماعة طالبان – القاعدة وأخواتها في أفغانستان ودول أخرى ، والبقية تأتي ؟! . لا لشيء إنما لمجرد الاختلاف بالدين / المذهب ، والتباين بالقومية / الاثنية ، والتغاير بالقبيلة / العشيرة ، والتمايز بالمنطقة / الجهة ، والتنوع بالثقافة /الهوية ، والتعدد باللغة /اللهجة . والجدير بالذكر إن كل قادة وزعماء الجماعات الأصولية التي كانت تخوض حروب عصابات مسلحة ، فقد كانت لهم ارتباطات ظاهرة وصلات مخفية بالمؤسسات الأمنية والاستخباراية الغربية / الأمريكية . فعلى سبيل المثال لا الحصر إن (أسامة بن لادن )
زعيم تنظيم القاعدة ، كان يمارس مهام ضابط ارتباط بين (السي آي أيه) والجماعات المسلحة التي كانت تقاتل الجيش السوفيتي في أفغانستان . أما أمير تنظيمات داعش (البغدادي) فلم يعد خافيا”على أحد انه كان أحد نزلاء سجون القوات الأمريكية في العراق ، والذي تشير الكثير من التقارير إلى انه كان يحظى برعاية خاصة من قبل المسؤولين العسكريين والأمنيين الذين كانوا يشرفون على تلك السجون . كما انه من غير الغرب / أمريكا من أشعل حرائق ما يسمى (بالربيع العربي) التي التهمت اليابس والأخضر في البلدان التي أريد لها أن تكون حطبا”لسعير ما يسمى (بالفوضى الخلاقة) ، حيث تداعياتها السياسية وعواقبها الاجتماعية لا تزال تفرز قيحها في جميع المفاصل وتبعث نتانتها في كل الأجواء ؟! . ولعله من الغريب – لا بل المضحك – أن يتحدث خبراء مكافحة الإرهاب في عواصم الغرب / أمريكا عن احتياج حكوماتهم إلى (سنوات) قادمة ، حتى يتسنى للتحالف الدولي الذي تتزعمه واشنطن القضاء على تنظيمات (داعش) أو غيرها من الجماعات المتطرفة ، برغم كل ما يتمتع به هذا الغرب / أمريكا من قدرات عسكرية كاسحة وإمكانيات استخبارية مهولة . هذا في حين عندما أصرت حكومات العالم الغربي / الأمريكي على إسقاط نظام (صدام) رغم الجبروت الذي كان يتمتع به داخليا”والدعم خارجيا”، مثلما قررت مطاردة واصطياد الزعيم الليبي (القذافي) رغم كل الإجراءات الاحترازية التي حاول من خلالها الإفلات من قبضتهم ، فقد تحقق لها ما أرادت بزمن قياسي ودون تضحيات بشرية أو خسائر مادية يعتد بها . والأنكى من ذلك إن حكومات هذا الغرب / الأمريكي لا تستحي حين تكذّب ما تناقلته وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي عن (الأخطاء غير المقصودة) التي حصلت أثناء تقديمها المساعدات اللوجستية أو نقلها للتعزيزات العسكرية ، تلك التي حصلت عليها جماعات (داعش) هدية على ثباتها ، بدلا”من أن تكون دعما”للقوات الإقليمية والاتحادية في سعيها لكبح جماح تلك الجماعات . هذا في حين إن التقنية العسكرية الغربية / الأمريكية تمكنت – وبدقة متناهية – من دك المواقع الحيوية العراقية ، أثناء حرب الخليج الأولى والثانية بواسطة صواريخ موجهة عبر الأقمار الصناعية
كانت تطلق من البحر على بعد المئات من الأميال . هذا بالإضافة – للتذكير فقط – إن تلك التقنية الفائقة استطاعت إرسال صاروخ موجه وبنفس الطريقة السابقة ، إلى مخدع الفنانة الراحلة (ليلى العطار) عقابا”لجرأتها على رسم صورة الأب المجرم (بوش) على أرضية مدخل فندق الرشيد ليكون موطئا”لأقدام السابلة من الناس ، احتجاجا”على همجية العدوانية الغربية / الأمريكية إثناء عدوانها على العراق . كذلك من ليس الغرب / أمريكا من صاغ الأفكار الشيطانية ووضع الخطط الشريرة ، التي أريد لها أن تستهدف النسيج الاجتماعي للدول الوطنية ، بحيث تتحول كياناتها الموحدة إلى حلبة للصراعات الدينية (مسلمين ومسيحيين وبقية الأديان) ، والطائفية (سنية وشيعية) ، والعنصرية (عربية وكردية وباقي الاثنيات) – العراق ولبنان يشهدان على هذه الأنماط – ، والجهوية (مناطق الجنوب ومناطق الشمال) – السودان مثال بارز – ، والقبلية (العشائر والبطون والأفخاذ) – اليمن الآن مثال على ذلك – وهكذا . ارجعوا إلى نظرية مستشار الأمن القومي السابق (زبينغو برادجنسكي) حول دعوته إلى ضرورة خلق الأزمات السياسية وفبركة الاضطرابات الاجتماعية في بلدان العالم العربي ، عبر تأجيج الصراعات المذهبية وإثارة النعرات العرقية ، وذلك لإضعاف أنظمتها وكسر إرادتها واستنزاف طاقاتها . وليس بعيدا”عن هذه النظرية الاستعمارية ما ذهب إليه نائب الرئيس الأمريكي الحالي (جو بايدن) في مشروعه الإجرامي الرامي إلى تجزئة العراق إلى ثلاث دويلات قائمة على أساس التقسيم الجغرافي / الطائفي ، الأمر الذي يسهم في إعداده وتنفيذه الآن إرادات قوى طائفية وشوفينية مدججة ، ليس فقط بالأسلحة والاعتدة المتطورة للاستئصال المتبادل فحسب ، وإنما معبئة بالكراهيات والأحقاد التي أضحت متحكمة بالعقول قبل النفوس . وعلى ما يبدو فان إرادات الشر هذه (نظرية برادجنسكي ) و(مشروع بايدن) ، تمتح من معين إرادة أخرى أكثر إيغالا”في الشر”وأشد إسرافا”في الحقد ، تلك هي إرادة رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق (بن غوريون) ، الذي أكد على أن هزيمة العرب وتمزيق شملهم لا يتحقق بالرهان على سلاح القوة العسكرية الغاشمة ، بقدر ما يمكن بلوغه من خلال وضع البلدان الأكثر أهمية على صعيد صراع الإرادات هي (العراق وسوريا ومصر) ، أمام تحديات تقسيمها إلى أقوام متنابذة وطوائف متباغضة ، يقتل بعضها البعض الآخر ويفني بعضهم البعض الآخر ، مضيفا”إلى إن ذلك سيحدث ليس بسبب ذكاء السياسة الإسرائيلية ، وإنما نتيجة لغباء العرب أنفسهم ! . أفبعد كل هذا يمكن أن يكون الغرب / أمريكا جادا”في محاربة الإرهاب ، ويكون صادق النية في الدفاع عن حقوق الإنسان !! .